اهداء الى كل من ينادي بإسقاط الجنسية، إلى كل من يطالب بفتح الحدود بغية طلب الهجرة إلى الضفة الاخرى؛ على أمل الاحتماء بدولة تحترم كرامة الانسان وتصون حقوقه. يقول عبد الرحمن منيف في روايته، شرق المتوسط: “ان اليقظة هي بداية النهضة، ولا يقوى على صناعة النهضة، إلا بشر أحرار وأسوياء، ويشعرون أن الوطن لهم”. لا أنكر أن هذ الاستنتاجات لمبدعنا الكبير والرائع عبد الرحمن منيف، الهمتني، لكن بدل الأخذ بها في بعدها الجمعي، افضل إسقاطها على الوعي السيكولوجي الذاتي، وأقول: ” ما أحوجنا إلى الوعي بالذات، ككينونة مستمرة وفاعلة، وقادرة على فصل الحد بين ذاتها وبين المحيط بشكل عام ”
اعتبر المبادرة هي بداية الوعي بالذات إنها عملية تحكم في المصير، ولا يقوم على صناعة المبادرة إلا إنسان حر سوي يؤمن بقدراته لا بقدرهِ، وبحقه في صناعة قراراته لأن حياته ملكه واختياراته من مسؤوليته”. يبقى التساؤل ما علاقة هذا التقديم المختصر للوعي الذاتي، بشعار رفعته جماهير شعبية مطالبة بإسقاط الجنسية؟.. ينمُ الشعار في كنهه على الاحساس بالقهر والدونية والضعف أمام جبروت النظام لا ديمقراطي ولا شعبي.
إن الجماهير المهمشة والمقهورة في وطننا المغتصب تطالب بإسقاط الجنسية، اقتناعا منها بأن الانتماء للوطن لا يقتصر على امتلاك بطاقة تعريف وطنية، بقدر ما هو احتواء لكرامة الانسان، الوطن هو العدالة هو الكرامة، انه الشرط المادي الأساسي لبناء علاقات اجتماعية وإنسانية نبيلة وراقية..
مع غياب شرط الانتماء وتحلل مفهوم المواطنة، لا يبقى أمام الإنسان المحبط والمقهور إلا محاولة الهرب من هذا الخطر، والذي هو مع الأسف الوطن وكل ما تختزله هاته الكلمة من الشعور بفخر الانتماء، لتتحول إلى رغبة في رسم قطيعة معه. إن ” المطالبة بإسقاط الجنسية وفتح الحدود للهجرة ” رغبة لدى مجموعة كبيرة من المواطنين، تسعى من خلالها إلى رسم معالم حياة امنة وقارة، مع حضور وعي وادراك تام : على انه لا ناقة لهم و لا جمل داخل هذا الوطن المُغتصب.
لفهم حالة اليأس والإحباط هاته؛ أي الرغبة ليس في الهجرة وإنما في إسقاط الجنسية، لأن الهجرة في حد ذاتها اختيار وحق، بينما المطالبة بإسقاط الجنسية هذا الهتاف الذي رددته جماهير شعبية من مختلف الأعمار والأجناس، وحتى المستويات الثقافية يترجم وبشكل فاضح وصارخ حالة التذمر واليأس والإحباط، التي اصبحت تلف المواطن حد الاحساس بالاختناق. إنه شكل من اشكال الرفض على سياسات التحقير والتهميش والإذلال لكرامة الناس، وتبقى حالة اليأس هذه حالة مفهومة ومقبولة شكلا وموضوعا، لان اليأس في هذه الحالة وبهذه الشروط، ليس مرتبطا ببنية الشخصية السيكولوجية ومقوماتها المعرفية الذاتية، بقدر ما هو يأس ناتج عن شروط وظروف اجتماعية واقتصادية جد متردية، وبعبارة ادق فإذا اعتدنا التركيز في علاج حالات اليأس على الجانب الذاتي للمريض، فإننا نجد أنفسنا امام حالة يأس تختزل كل شروطها المادية والثقافية والسياسية والدينية، لتنتقل من الخارج الى داخل نفسية الفرد. ما يفسر أن حالة اليأس ليست نابعة من شروط الشخصية نفسها، بقدر ما هو يأس ناتج عن ظروف اقتصادية وسياسية وحقوقية ظالمة وقاهرة، ومع غياب إمكانية وجود حل صارم أو بديل جذري حقيقي واضح المعالم لما تعيشه أغلبية الشعب، من بطالة وفقر وتجهيل وتطويق وملاحقات، في حق كل النشطاء السياسيين والحقوقيين.. يغدو أمام هذا الفراغ التنظيمي، لا بديل ولا امل للتشبث لدى هذه الفئة من الجموع، غير الهروب والرغبة في الهجرة مع التأكيد طبعا على إسقاط الجنسية..
من أجل فهم أكثر هذه الظاهرة؛ أي المطالبة بإسقاط الجنسية بدلا من إسقاط النظام النيوليبرالي المُهيمن، سأحاول رصد البعد السيكولوجي لهذه الظاهرة: أرى أن السلوك الجمعي يُبنى في الأساس على شعور بالقهر والإحباط، لكن هذا الشعور بالقهر، ومع دوامه واستمراريته داخل الخط الزمني من عمر الانسان؛ يُنتج الشعور بالاغتراب. حيث أن الشعور بالاغتراب أو الاحساس بالغربة داخل الوطن الام، احساس مؤلم وفظيع وله حمولة سيكولوجية مشحونة بطاقة سلبية رهيبة ومرعبة، لأنه احساس صريح وقوي يشير إلى غياب شرط الأمان داخل الوطن الام. الشعور بالألم المتفاقم والاحساس بالعجز والضياع، أكثر ألماً وأكثر هدراً للطاقات الإيجابية عند الانسان، ولا أبالغ إذا قلت بأن الاحساس بالاغتراب داخل الوطن أشد الماً وظلماً وقهراً، من نفس الشعور بالاغتراب عند المهاجر الذي يتواجد أو يعيش ومستقر بشكل دائم في ديار المهجر. علما بأن المهاجر يتعامل مع هذا الشعور بشكل وطرق مختلفة، وحسب إيقاعات وطاقات نفسية طبيعية واجتماعية خاصة، تختلف حسب القدرات المعرفية والشخصية لكل موضوع بشكل متفرد وخاص.
إذاً لماذا المطالبة بإسقاط الجنسية بدل المطالبة بإسقاط الفساد؟
ببساطة شديدة رغم تعقيداتها، إنه الانطواء على الذات، إنها آلية دفاعية تسير في اتجاه الانغلاق على الذات، والانسحاب بدل مجابهة التحديات الراهنة والمستقبلية. تظهر هذه الآلية الدفاعية كثيرا في ردود فعل الإنسان، تجاه مختلف حالات الفشل الذي يصحبه احساس داخلي بالعجز وقلة الحيلة. تصير هذه الحالات مع الناس بشكل عام، وقد يعتمد الفرد الانطواء على الذات بقمع رغبته، تجنباً لحالة الألم وحالات الاحباط، فيقطع الصلة بموضوعات هذه الرغبة كي لا تثير في نفسه قلق الخواء..
الخطير في الأمر أن الإنسان المُحبط يعتقد حد الجزم؛ أن فشله واحباطاته متعلقة بشكل كبير بقدراته الضعيفة في حل مشاكله ومواجهة خساراته. لكن يبقى السؤال كيف يمكننا مواجهة هذا الخوف والتوتر من إعادة تجربة الفشل أو الاحباط ؟!
هناك وسائل عدة يلتجئ إليها الانسان، لكن الاحتماء بالأسرة أو الجماعة كيفما كانت طبيعتها، ولونها الفكري والثقافي أو الديني، يبقى بديلاً عفوياً تلقائياً، بغية خلق نوع من التكافل أو التضامن الاجتماعي، والذي ليس في حقيقته الا شكل آخر من أشكال الوجود والاحتماء، بمواجهة حالة العزلة والضعف والهشاشة السيكولوجية الداخلية.
بيدَ أن هذا النوع من العلاقات داخل مجموعة بشرية، ليس علاقة مع انسان فعلي وفاعل بقدر ماهي علاقة تماهي وإسقاط، وقد ينحل هذا الشعور بالاستقواء ويتلاشى، بمجرد ما تجد المجموعة نفسها وجهاً لوجه مع خطر طبيعي أو مؤسساتي يهدد أمنها واستقرارها. ربما نجد أنفسنا امام تساؤل آخر يفرض نفسه بقوة، هل هشاشة تنظيماتنا السياسية و النقابية والطلابية الخ..، مبنية على اختلالات ذاتية وعلى عناصر تفتقد الثقة والشجاعة الكاملة من أجل أخذ زمام المبادرة ..؟
أمام حالة اليأس والضعف، نجد أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: فإما التشبث بالأمل وهنا علينا أن نستعمل كل الصيغ، وكل آليات المقاومة والفهم والصمود، لأن أملنا هو الطاقة الوحيدة التي بإمكاننا تحويلها إلى حياة وقضية، واما أن نتقوقع على ذواتنا ونغلق كل الأبواب والنوافذ، ونسقط في متاهات الضياع واليأس والخمول والعبودية.
شخصياً أُفضل طريق المبادرة والفعل وان كانت مغامرة، إلا أنها الوسيلة الوحيدة لقهر الخوف والظلم المحيطين بنا.