أعترف أنني فقدت متعة متابعة الخطابات الرسمية منذ مقتل معمر القذافي “المشكلجي” و انتهاء حقبته. فمنذ خطاب “من أنتم” الشهير، و الأخير له، الذي ألقاه إبان الثورة الليبية أواخر أيامه في الحكم، فقدت الخطابة الرسمية العربية لمسة السخرية الخلاقة. و رغم أنني لم أكن أفهم كثيراً من كلامه لصعوبة اللهجة عليَّ، لكنني كنت أستمتع بلغة الجسد و تعابير الوجه، و أتمتع أكثر بالمهاترات التي تقع بينه و بين نظرائه من قواد تلك المرحلة و تابعيهم.
ظللت على افتقادي هذا حتى جلس دونالد ترامب “الإشكالي” على قمة الهرم السياسي العالمي، بعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة عام 2016. منذ أن تابعته بالصدفة لأول مرة و هو لا يتوقف عن مفاجأتي، و العالم بأسره ربما، بمواقفه الغريبة حد الإفراط، و بسلوكياته العجيبة حد التفريط. لكنه أضاف إلى تلك الخصال، و منذ أن اعتلى المنابر كرئيس أعظم قوة في العالم، الابتذال في انتقاء مفردات اللغة المتفلتة من الضوابط حد الإدهاش، تلك اللغة الخارجة على أصول المكاشفات، و قواعد “الإيتيكيت” الديبلوماسية المعتادة، و المتبعة عادة، في خطابات الساسة.
أكيد هناك فرق بين الرجلين، و بين الحقبتين. لكني مع ترامب أفهم اللغة التي يقولها، كما أتابع لغة جسده، فيزداد اقتناعي مع كل جنحة لغوية له أنه لا يصلح لأن يكون أكثر من راعي لفريق مصارعة تمثيلية أو ترفيهية (WWE)، كما كان يوماً.
بغض النظر عن الامتهان الذي وصلت إليه الحركات و الإيماءات التي يطالعنا بها بين الحين و الآخر، فاللغة التي يستخدمها تفتقد كثيراً الرصانة التي تتطلبها اللغة الرسمية. فرغم أنها ينبغي أن تكون وسيلة من وسائل المسؤول في تبليغ الرسائل برمزية تحرج بدل أن تجرح، و تتبع المداورة بدل المباشرة، إن كان لداعميه أو لخصومه، إلا في حالات معينة، لكن صاحبنا أبعد ما يكون عن ذلك.
مباشرته تدلل على جهله بدلالات الكلمات، و بسوقيته يضرب عرض الحائط بالإشارات متعددة الأغراض، التي تحملها السياقات اللغوية في الخطابات الرسمية، تماماً كما يستخف بالمخاطب بغض النظر عن موقعه، لجهله، أو استهتاره، بشعرة معاوية في العلاقات البينية. بل إن فجاجته في طرح أفكاره تتجاوز الصراحة لتصل حد السفاهة، أو ربما الوقاحة، في كثير من المناسبات. و هذا أمر لم تبلغه لغة رئيس من قبل ربما، اللهم إلا لغة الرئيس الفلبيني الحالي، رودريغو دوتيرتي.
و بعيداً عن حسابات المواقف من أولئك الذين سلط عليهم ابتذال لغته، يبرز وصفه لبشار الأسد علناً بالحيوان animal)) في إحدى خطبه كمثال صارخ على اللغة المتردية التي يتفرد في استخدامها و لو في حق من لا موقع له. عندما سمعته يقولها ذهلت عما تبعها من كلامه، و قلت في نفسي : “يا إلهي، لقد وصف الأسد بالحيوان لتوه. هل هذا صحيح أم أنني أتخيل ؟”. و عادت شجون الذاكرة مع “الطز” الشهيرة للقذافي بحق أمريكا. لكن الأمر كان صحيحاً زيادة لدرجة دفعت الأسد نفسه لفلسفته حينما سئل عنه. و يثبت الانفلات اللغوي هذا ما ضمنه الصحفي الأمريكي بوب ودوورد كتابه “الخوف” حيال وصف ترامب للسيسي بالقاتل اللعين (fucking killer)، رغم تخفيف الترجمة لمدلولات كلمة fucking ) ) المبتذلة جداً، في حديثه مع محاميه بشأن الناشطة الأمريكية المصرية آية حجازي التي كانت محتجزة لمدة ثلاث سنوات في سجون السيسي.
لكن الأكثر مدعاة للتأمل ربما، هو ارتداء اللغة الرسمية لسمة العلنية الفاقعة في عرض رسائله الابتزازية و الاستفزازية، مع فقدان اللباقة التي لا قيمة لها عنده أساساً. و ربما تكون اللغة التي استخدمها بكل صلافة في دعواته المباشرة للدول الغنية، لا سيما السعودية، للدفع مقابل الدفاع، خير دليل على وجود خلل حقيقي يعاني منه الرجل، فلا يستطيع معه التحكم بلغته و إبقائها على سكة الرسمية و المسؤولية. في خطابه أخبر أنصاره، بلغة مباشرة و ساخرة، بما قاله للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز أنه لن يستطيع أن يركب طائرته الخاصة بدون الحماية الأمريكية، و كرر على مسامعه أنه لن يبقى على عرشه أكثر من أسبوعين بدون حماية أمريكا، و عليه أن يدفع لقاء هذا. فهل هذا تهديد أم نصح أم تذكير ؟.
حينما سمعته في المرتين قلت أن “الرجل يفقد السيطرة على كلماته. لقد حول أميركا من أعظم دولة إلى مجرد شركة حماية بمستوى Black Water سيئة الصيت لتوه، كما جعل الجيش رقم واحد في العالم مجموعة من المرتزقة، بعبارة لا تزيد جملها عن أربع أو خمس ربما. يبدو أن إيفانكا ستزور المنطقة قريباً، فإتاوة المليارات الأربعمائة قد انتهى مفعولها. ألا يعي من حوله ما يقوله هذا المعتوه؟”. لكنني أستطيع التأكيد الآن أن الأمر ليس مجرد انفلات لغوي، و ليس وقفاً على ترامب وحده. إنها سمة الإدارة كلها.
ربما تكون هذه اللغة المليئة بالعنجهية و الإسفاف إحدى تجليات فلسفة التعالي (transcendentalism) التي تغذى عليها العقل الأميركي منذ بدايات نشوئه. أو أنها إحدى تبعات السلوك المتفلت لدعاة تحقيق الحلم الأميركي، في سعيهم إلى التفوق، كتعويض عن خداجة تاريخهم و انتفاء الجذور المشتركة لهم كشعب واحد. لكنها، في الواقع، نتاج حقبة الظهور العلني لأبطال البورنو السياسي بدون مساحيق الديبلوماسية.
قد تبدو اللغة الترامبية هذه حالة طارئة على منابر الساسة، لكنها حالياً السلاح الأمضى في يده للتغطية على مشاكله أمام الناخب الجمهوري. و على الرغم من حقيقة تحولها إلى ناقل لأفكار قديمة كان قد طرحها منذ سنوات عديدة، قبل أن ينتخب رئيساً للولايات المتحدة، لكنها تستطيع، حتى الآن على الأقل، أن تقنع المتلقي الأمريكي بجدواها، سيما بعد تحولها إلى أفعال.
لقد أخرج ترامب اللغة الرئاسية من المكتب البيضاوي في البيت الأبيض إلى الشوارع الخلفية لهارلم السبعينات، و أبرز نفسه كواحد من سادة عصابات العصر الحاكمة، أو Bad Boys Gangs، أكثر منه رئيساً، ليمارس الابتزاز و “التشليح” العلني من خلالها، كما لم يفعل أحد من الرؤساء من قبل. و لكنه، بفعله اللغوي هذا، و المدعم سلوكياً، أبرز الوجه الحقيقي للمنتج السياسي لأمريكا، و للحقبة الحالية، كما أبرز نفسه كظاهرة فريدة، و متطرفة أيضاً، و سيكون لها مقلدوها بالتأكيد في المستقبل. و يبقى السؤال : هل الترامبية مرحلة لغوية في سيرورة حقبة أم أنها تؤسس لحقبة بحد ذاتها؟.