يتسارع تدهور قيمة الليرة السورية، مجدداً، بعدما تباطأ لفترة من الزمن، في ظل جمود واضح لمواجهته من قبل مصرف سوريا المركزي.
اجتهادات كثيرة خلال الأيام الماضية برزت لتفسير ما يحصل. ويبدو ذلك صعباً في ظل غياب البيانات الرسمية عن الاحتياطي الأجنبي، الذي تم إنفاق معظمه، على الأغلب، خلال الحرب، بحسب ما قاله سابقاً رئيس الوزراء عماد خميس، في أيلول/سبتمبر. وكذلك، غابت البيانات الرسمية حول ميزان المدفوعات منذ العام 2011، والذي يوضح التداخلات ما بين الاقتصاد المحلي والعالمي، بالإضافة إلى إمكانية توقع أسعار الصرف.
الخطر الأكبر يبرز في التوقيت، إذ أعدت الحكومة مؤخراً ميزانية العام 2019 على أساس سعر صرف الليرة بـ435 لكل دولار أميركي. وإن كان إقرار الميزانية النهائي في مجلس الشعب هو تحصيل حاصل كغيره من القوانين والتشريعات. وكان مصرف سوريا المركزي قد ثبّت سعر صرف الدولار عند 434 ليرة، بعدما خفّضه بشكل غير مسبوق في 27 تشرين الأول/نوفمبر 2017، عندما وصل إلى 490 ليرة، بحسب النشرة المعتمدة من المصرف المركزي.
إلا أن سعر صرف الدولار، ارتفع خلال الأسبوع الماضي، في السوق السوداء السورية ليتجاوز عتبة الـ490 ليرة، وما زال الارتفاع مرشح للتصاعد.
ويبدو أن حاكم مصرف سوريا المركزي الجديد حازم قرفول، أمام تحدٍ كبير، يكاد أن يكون الأول الذي يواجهه. قرفول تحت المجهر حالياً، خاصة أنه يحمل مخزوناً من الدعاية الإعلامية التي سخرها له النظام عند تعيينه قبل شهرين، خلفاً للحاكم السابق دريد درغام، الذي تم الاستغناء عنه، رغم أنه تمكن من كسب بعض الثقة من السوريين في الداخل.
ويُختصر تراجع ثقة السوريين بسياسات المركزي، بقولهم إن تراجع سعر صرف الليرة الأخير يعود لأنه المركزي يسعى مجدداً للاستحواذ على القطع الأجنبي المتوفر بين أيديهم. ويبدو أن ذلك القول المنتشر هو إحدى الخسائر السريعة التي جناها الحاكم قرفول.
وكان لتقلبات سعر الصرف محطات عديدة خلال العام 2018، إذ بدأ بسعر 469 ليرة للدولار في نهاية كانون الثاني/يناير، ثم وصل إلى 470 نهاية شباط/فبراير. ورغم التقلبات خلال الشهور الثلاثة اللاحقة، فقد استقر سعر الصرف عند 444 ليرة للدولار مع نهاية تموز/يوليو.
في آب/أغسطس، بدأ سعر صرف الدولار بالارتفاع مسجلاً 455 في آب، و463 في أيلول، و467 في تشرين الأول. وها هو اليوم يلامس سعر 500 ليرة مع تزايد المخاوف بين السوريين.
ومن المرجح أن يستمر هذا التراجع في قيمة الليرة بسبب عوامل منها تسجيل الدولار الأميركي لأعلى مستوى له في الأسواق العالمية، وسط توقعات بأن يقوم الاحتياطي الفيدرالي الأميركي برفع أسعار الفائدة في ديسمبر/كانون الأول 2018 وما بعده، ما يرجّح ارتفاع الدولار عالمياً طوال هذه الفترة.
إلا أن عوامل داخلية أخرى تساهم في استمرار تدهور الليرة، وأهمها حالة اللاجدوى التي يعيشها القطاع النقدي والمراوحة في المكان من دون أي محفّزات للسوق، مع استمرار العجز التجاري وعدم قدرة الحكومة على تحفيز الصادرات غير النفطية.
وما زال التجار والأفراد خائفين من قرار المصرف المركزي الصادر في أيلول/سبتمبر، والناجم عن تدقيق عمليات التدخل التي قام بها في العام 2012، ومطالبته الافراد والتجار بإبراز ثبوتيات حول الطريقة التي استخدموا بها القطع الأجنبي. ويدفع ذلك إلى الاعتماد من جديد على السوق السوداء خوفاً من أي مطالبات مستقبلية من المركزي. فالتجار لا يملكون على الأغلب مثل هذه الثبوتيات، كإجازات استيراد أو شهادات جمركية. وفي ذلك مؤشر كبير على حصول عمليات استيراد وهمية، بهدف الحصول على الدولار بسعر مُخفّض ثم استخدامه في عمليات المضاربة لا الاستيراد. الموعد الأخير لتنفيذ قرار المركزي هو نهاية تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، ما يزيد من الضغط على التجار. وقد خابت توقعات الكثيرين حول إلغاء القرار على يد الحاكم قرفول.
أعمال المضاربة على الليرة تستمر وتزدهر في السوق السوداء، وهذا أمر لم ينته رغم كل محاولات الحكومة “الشفهية” للتخفيف منه، خاصة أن معظم المضاربين الكبار محسوبون على النظام.
ومن الطبيعي أن تشهد سوريا زيادة كبيرة في الطلب على الدولار، ويعود ذلك لزيادة حالات السفر والدراسة في الخارج، وعدم الثقة بالعملة المحلية. كما أن وجود عدد كبير من السوريين في دول مجاورة، هرباً من الخدمة العسكرية، يدفع الأهالي إلى شراء الدولار، ولو بكميات قليلة، لجمع قيمة البدل النقدي. في حين تبقى البيانات حول حجم القطع الأجنبي الوارد من الحوالات الخارجية إلى سورية متضاربة، ويصعب تقييم دورها الفعلي.
ويؤخذ على الحكومة إهمال القطاع العام الصناعي، منذ ما قبل العام 2011. إذ لا توجد حالياً إمكانية لتصريف المنتجات السورية خارج مجال إيران والعراق. وهي بالأساس علاقات اقتصادية لا تعكس العلاقات السياسية القوية. وحتى المنتجات الزراعية ضعيفة وتكاد تكفي الحاجة المحلية. ولم يشهد فتح معبر نصيب مع الأردن تحولاً ملحوظاً في العلاقات التجارية، بل كان مصدراً لمزيد من عمليات المضاربة من قبل التجار الأردنيين لشراء البضاعة السورية بأسعار زهيدة، ثم بيعها في الأردن. وبالتالي لا مداخيل كبيرة للقطع الأجنبي يمكن أن يعوّل عليها حالياً من المعبر.
ومع استمرار غياب استراتيجية تقنية واضحة من الحكومة لمواجهة الذعر من تدهور إضافي في قيمتها، وتوقع ارتفاع سعر الدولار عالمياً، فإن انخفاض قيمة الليرة مرشح لأن يستمر على الأقل حتى نهاية العام 2018. وحتى ذلك الحين، لا يبدو أن الحاكم قرفول، سينهض من سباته الشتوي.
المصدر: المدن