يطالعنا التاريخ، بين مرحلة وأخرى، بكثير من الأحداث والمواقف المحفوظة في أحشاء كتبه العتيقة، وسطورها التي انحنت بسبب شيخوخة التوثيق. وعلى الرغم من البون الزمني الشاسع، والأطر المكانية المختلفة، يعيد الزمان سرد تلك الوقائع وكأنه يسعى إلى الدفع باتجاه التقاط الفكرة واستلهام علائقها الانفعالية، وليس مجرد القيام بفعلي الدراسة والإسقاط اللازمين على ما يعبر جسر الحاضر.
الخطوط التي يسير عليها هنا كل من التاريخ والواقع متوازية؛ حد إرباك من يجهل سيرورة الضرورة، لكنهما في لحظة توأمة المصائر العابرة للزمان سيلتقيان، تقاطعاً أم تطابقاً. وعند هذه النقطة، نقطة تجلي الماضي على أحداث الحاضر، سيكون الأقرب إلى تحقيق الهدف هو ذاك الذي أحاط بالدرس، ووعاه. هنا تتبدى مقولة الفيلسوف الإسباني الأصل خورخي دي سانتايانا ” الأمم التي لا تتعلم من دروس التاريخ، محكوم عليها بتكرار تجاربه “.
ستكون ثورة العبيد الثالثة ( 71 – 73 ق.م. )، التي قادها سبارتاكوس، الخط الماضوي الذي يوازي ثورات الربيع العربي ( 2010 – ∞ )، التي أصبح بعضها من التاريخ أيضاً، و لم يقدها أحد.
هناك تراكمية سببية تقف خلف كل حراك سجله التاريخ، لكن، يبقى الاستبداد وامتهان الكرامة الإنسانية أصل البلاء، وهذا ما دفع سبارتاكوس إلى العصيان. كان شاهداً على اقتتال المجالدين ومقتلهم للتسرية عن السيناتور ماركوس كراسوس، فرفض قتل مصارع في الحلبة. كذلك فعل خصمه، درابا، الذي زاد عليه بقتل من حوله من الحرس، ليتجمع عليه الجند ويقتلوه. يتوازى مقتل درابا مع مقتل البوعزيزي الذي أشعلت نيرانه الشارع في تونس، ومع مقتل خالد سعيد الذي فجر الشارع المصري. والتمرد على ابن الطغمة الحاكمة، يتطابق بشكل ما مع التمرد على عاطف نجيب في درعا، الذي أشعل الشارع السوري.
لتتضح الرؤية، لابد من سرد وقائع ثورة العبيد. الثورة مرت بثلاث مراحل: مرحلة الانطلاقة، أو لنسمها العفوية التي تميز عادة البدايات، أو مرحلة فوضى رد الفعل الجمعي على مقتل درابا. عندها كان سبارتاكوس من ضمن الثائرين. ثم مرحلة الصدام المباشر مع قوات روما التي استشعرت الخطر المهدد لوجودها، فاتخذت قرار المواجهة. نقطة تقاطع جديدة في المسارين. أرسلت قوة سحقها الثوار، وأردفتها بجيش لاقى نفس المصير نتيجة خبرة سبارتاكوس وكفاءته. هنا تظهر نتيجتان مباشرتان: الأولى علوّ نجم سبارتاكوس كقائد، وانضمام المزيد من الثائرين ليصل عددهم إلى المائة ألف حسب بعض المصادر؛ والثانية انقلاب الرأي الروماني العام على ضعف الحكومة. يتم تقسيم القوات الثائرة بين سبارتاكوس وكريكوس، لتميل مجموعة هذا الأخير إلى السلب والنهب فتقع فريسة سهلة لكمين روماني أودى بمعظمهم. وأخيراً مرحلة النهاية.
في لحظة ما، حين يقرر القدر تكرار سرد أحداث تلك الثورة بمفردات الواقع، يسردها بلا سبارتاكوس، أي بلا قائد. بهذا، يكون التاريخ قد طرح في سرديته تلك الحالات التي يمر بها أي حراك ليتحول إلى عملية تغيير جذري، أي إلى ثورة، أو يبقى مجرد “فشة خلق”، مع التشديد على لزوم الفعل القيادي الاستراتيجي في هذا التحول. سيجعلنا نعيش أحداث حراك بلا رأس. لكن مع تطاول أمد العفوية، سيصبح الاستمرار ضرباً من المراوحة، أو سكونية الفعل، مثل الثورات التي سحقتها روما من قبل بسهولة.
يتابع تصوير الأحداث بلا قيادة حتى يصل بنا إلى فوضى الانفعال، كما تخبرنا المرحلة الأولى. ثم، يقرر الارتقاء في نظرية الإحتمالات، فيستبدل سبارتاكوس، القائد الحقيقي، بكريكوس، قائد مجموعة اللصوص، لنشهد الانحراف الذي انتهى بمقتلة، كما تسرد المرحلة الثانية من الثورة.
عند الطرحين الأولين، أي اللا قيادة، والقيادة المنحرفة، يتكسر المنحنى التاريخي للفعل الثوري فيتراجع زخمه، وتفتر همة التغيير في نفوس فاعليه، وتتغير النظرة بتغير الهدف وانعدام المحفز المنظم، فيتم اللجوء إلى التبرير، تبرير التنازلات، وتبرير تبدل الأغراض، وتبرير الفوضى.
أما عند مستوى الطرح الثالث، فيستمر هذا المنحى صعوداً تبعاً للآليات الفاعلة على الجانبين المتصارعين، حتى يحقق المعادلة المستهدفة، أو يتكسر نتيجة تدخل خارجي أقوى، ليحدث الانزياح القاتل في طرفي المعادلة أو في أحدهما. التطابق هنا يستمر وكأنه لن ينتهي. عند هذه المرحلة، يلعب المدرك لدورة التاريخ، ذو الفكر الاستراتيجي، أو بالمصطلح المعاصر رجل الدولة، على المستوى السياسي، والقائد العسكري، على المستوى الميداني، والقائد الإعلامي، على مستوى التوجيه، الدور الأكثر فاعلية وتأثيراً، وهو ما افتقدته معظم ثورات الربيع العربي، وخصوصاً الثورة السورية، في قادتها الذين انقسموا إلى أمثال كريكوس، أو أولئك الذين عادوا إلى الكوليسيوم لاستحالة تحقيق الهدف الكبير، والانكفاء نحو الاكتفاء “بسلامة الرأس”. عند هذا المنعطف تبدأ مسارات الحدث بالانفصال.
القائد في الثورة الثالثة، أو سبارتاكوس، لم يكن نتاج صدفة كما شهدنا في قادة اليوم. الرجل كان حسب كثير من المصادر عسكرياً في جيوش اليونان وأسر في إحدى المعارك. تثبت ذلك البراعة التي أظهرها في قيادة جماعته، ودرايته في وضع الخطط الحربية والتكتيكات العسكرية، وإمكاناته الكبيرة في القيادة وإدارة الجماعات. أي أنه لم يكن سبّاكاً أو حداداً أو نجاراً يقود شلّة من المتحمسين. حتى حين حاصرته الفيالق الرومانية في المرحلة الثالثة والأخيرة للثورة لم يتخل عن واجبه كقائد. بل درس الوضع الميداني وحدد نقطة الضعف وهاجمها حتى كسر الحصار.
هنا، تنتهي الحكاية. فالرواية الماضوية انتهت باختفاء سبارتاكوس، أو مقتله، في بعض المصادر، وانتهت الثورة دونما تغيير على المدى المنظور، كما شهدت مصر وتونس. وفي النسخة السورية، يتجاوز الواقع نقاط توقف الماضي، باستمرارية أمثال كريكوس في قيادة الفوضى التي خلفها إفشال الثورة، ليعفشوا حتى المنحنى المقدس للتضحيات.
رسمياً، استعادت روما كل ما خسرته من أرض، وأعلنت انتصارها. كما استعادت الدولة العميقة ما خسرته في مصر وتونس، وكما استعاد النظام السوري ما كان الثوار يسيطرون عليه من الأرض.
لكن الحقيقة أن خطي الزمان تباعدا عند أهداف الثورات. فثورة سبارتاكوس كان هدفها تحرير المستعبدين ليعود كل منهم إلى بلده، وليس لقلب نظام الحكم. أي أن الهدف يشابه بدايات الأحداث في سورية حين نادى الشعب بإصلاح النظام، لتكون نقطة الاقتراب الوحيدة. وفيما نجحت الموجات الارتدادية لتسونامي الثورة في تفعيل ثورات أخرى أفضت إلى تغيير النظام لسياسة الاسترقاق في روما، وهذا أعظم إنجاز لثورة لسبارتاكوس، لا يزال استشراف المستقبل مستحيلاً، مع عتمة الآفاق المحيطة بالواقع المنظور في بلاد الثورات العربية. بالتالي، فإن أفضل ما وصلت إليه الثورات التي رفعت سقف الشعار ليصبح إسقاط النظام، وهي تفتقر إلى سبارتاكوس الخاص بها، هو تغيير الوجوه وحسب، كما حصل في مصر وتونس، أو العودة إلى حضن الدولة المستبدة وعلائقها التبعية كما في سورية.
لم تع الشعوب العربية دروس التاريخ، وتجاهلته طلائعهم المثقفة، فتحققت في ربيعهم نبوءة الفيلسوف الإسباني، وتكرر التاريخ بأبشع صوره. ما بقي من الثورات إلا بضع أوراق تذكر بربيع ما، ستتناوشها أقلام المنتصر لتبقى قراءة أسطرها حلم أمّة مخضّب بالدم.