لم يكتب الخطيبي كتابا تحليليا يوازي كتاب معاصره عبد الله العروي “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، سوى الحمى البيضاء، وإن كانت سيرة “الذاكرة الموشومة” قد سرقت منه الأضواء في الفترة نفسها. فعبد الله العروي، المؤرخ والمنظر و”الفيلسوف”، ظل مهموما بقضايا التاريخ والفكر ويمنحها في مسيره إمكان أن تستوي في تسلسل لم يحد عنه إلا نادرا. إن العروي ظل يخط مسار فكره ويدافع عنه إلى حدود اليوم، سواء في الكتاب المذكور أم في كتاب “العرب والفكر التاريخي” أم في كتاباته اللاحقة، وحواراته الكثيرة في السنوات الأخيرة.
ما الذي حدث بين العروي والخطيبي حتى يشكلا خطين متوازيين لا يلتقيان إلا في القليل النادر، لكي يعاودا الانفصال؟
فكر الاختلاف وفكر التاريخانية
إذا كان الخطيبي لم يكتب كتابا يوازي كتاب العروي سالف الذكر، فإنه في 1974 كتب كتابا عن العرب، وعن فلسطين سماه بعنوان غريب: الحمى البيضاء. وفيه ينتقد منظور سارتر للقضية الفلسطينية ويعالج بشكل جديد تماما هذه القضية، وعلاقة العرب بااليهود والأصل الإبراهيمي….
ثم أردف هذا الكتاب بمقال يمكن اعتباره بشكل آخر المقابل الفعلي لكتاب العروي، وفيه لم يتورع عن مواجهة هذا الأخير. فمقال “الفكر المغاير” الذي صار في ما بعد يحمل عنوان “المغرب الكبير أفقا للفكر” (الذي ترجمه أدونيس للعربية) الذي صدر في كتاب “المغرب المتعدد”، هو في الحقيقة صيغة مفصلة للمقال الذي ترجمه أدونيس عن مجلة أوروبا الفرنسية…
في هذا المقال الأشبه بالبيان الفكري، يقترح الخطيبي مقابل ثالوث العروي (الفقيه والسياسي والتقني) التحولات الثلاثة التالية:
– التقليدانية التي يعتبرها ميتافيزيقا تختزل في اللاهوت؛
– والسلفية التي يعتبرها اللاهوت وقد تحول إلى عقيدة ومذهب (المصالحة بين العلم والجين وبين التقنية واللاهوت)؛
– والعقلانية، والتي يعتبرها الميتافيزيقا وقد تحولت إلى تقنية.
وفي معرض تحليل هذه التحولات يأتي الخطيبي على ذكر ثالوث العروي ليقول عنه: “هذه التمييزات هي بالأكيد مجدية، غير أنها لا تمس سوى من بعيد القضية الشاملة للعالم العربي. فبين الدين والسياسة والتقنية ثمة عمليات تضامن هيكلية علينا أن ننتبه لها حين نحلل العالم العربي في كليته… فالميتافيزيقا واللاهوت والأخلاق تستمر معا في الحفاظ على قوتها وهي تغلف بنيات المجتمعات العربية. إن ما يشتغل اليوم ومنذ الأبد ليس فقط صورة اختبارية من “إيديولوجيا عربية معاصرة ما” وإنما المصير التاريخي historial (أي التاريخ بلا تتابع زمني حسب هايدغر) للعرب، وتوسعهم وانحطاطهم وعدم التلاؤم الذي يربطهم بباقي العالم (الغربي وغيره)، باعتبار هذا المصير، منذ فجر الإسلام حاضر”.
حين ينتقد الخطيبي العروي، وهو يصرح بذلك، ليس ذلك بهدف السجال وإنما لأنه يعتقد أن من السهل عليه أن يبين أن حقيقة التاريخانية تلك ليست سوى لعبة لاهوتية في صورة إيديولوجية. فعمل العروي في نظر الخطيبي ليس سوى وثيقة وعينة لانحطاط غير مفكر فيه لا يتكفل بنفسه في مكبوته، أي في العلاقة بين التاريخ والميتافيزيقا. بل إن الخطيبي يصف هذه الإيديولوجيا التي تنادي بتاريخانية منفصلة عن لغة الميتافيزيقا وبمفاهيم الحقيقة والعلم بالساذجة. ففي نظره نحن تراثيون بنسيان التراث وعقائديون بنسيان فكر الوجود وتقنويون بالتبعية. من روضنا هكذا، يتساءل الخطيبي، كي يغدو هذا النسيان أبديا؟
ينتقد الخطيبي شعار العروي للقيام “بتاريخانية معممة”. إنها تاريخيانية تؤمن، على طريقة هيغل وماركس بتوالي المراحل التاريخية. ومن ثم مفهوم “التأخر التاريخي والثقافي” الذي يعاني منه العرب بالعلاقة مع التطور “الكوني”. “إن ما يدمر تاريخانية العروي هذه، هو وفاؤها لتساؤل ساذج عن الوجود، لأنه يتحدث بلا كلل عن الهوية من غير أن يمسك برهانها الفلسفي والميتافيزيقي.
وحين يكتب العروي في الإيديولو جيا العربية المعاصرة: “يطرح العرب منذ ثلاثة أرباع القرن السؤال الأوحد نفسه: من هو الآخر ومن هو أنا”، يتساءل الخطيبي بدوره معلقا بسخرية: أليس هذا السؤال هو سؤال الوجود منذ فجر اللغة والبشرية، بل سؤال الفلسفة. فهنا نسي العروي مسألة الوجود والموجود، والمؤتلف والمختلف، كما طرحت منذ الفلسفة اليونانية… بيد أن العروي، حسب الخطيبي، ليس فيلسوفا. وما يبدو أنه يطرحه كاكتشاف ليس سرا حتى على فيلسوف من القرن الخامس. ومن ثم يقول وكأنه يدير الظهر لفكر العروي بكامله: “من ثم لا أرى جدوى كبرى من دراسات من قبيل هذه للهوية والإيديولوجيا العربية”.
إنه نقد أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه قاس. لكن ما هي المشروعية الفكرية لهذا النقد؟
هايدغر ضد هيغل
أستعير هذا العنوان من كتاب لصديقي الفيلسوف عبد السلام بنعبد العالي، قصد توضيح هذا الصراع حول التاريخ والهوية والوجود العربيين، بين علَمين من أعلام الفكر المغربي المعاصر.
بالرغم من الدقة التي يحلل بها الخطيبي ويعيد بها صياغة مفهوم الهوية والتقنية والدين فإن تصوره الهايدغري يظل طاغيا. نحن لسنا في نظره مضطرين للمرور بالمراحل التي مر بها التاريخ الغربي. والماركسية التي يقاربها العروي يضادها الخطيبي بماركسية متجددة لدى ألتوسير، أقرب إلى فكر الوجود كما يتمثله. فمفهوم التطور التاريخي الهايدغري ليس تسلسليا ولا زمنيا. وجوهر التقنية، كما يقول هايدغر ليس تقنيا.
من ناحية أخرى، فمفهوم التاريخ الهايدغري مفهوم مبني على الهوية الاختلافية، ضدا على ميتافيزيقا ترى في التاريخ تسلسلا. ونحن نتذكر أن ماركس نفسه قد انتبه لذلك فعمد إلى تنسيب منظوره لتطور العالم الغربي بمفهوم نمط الإنتاجي الآسيوي الذي يمنح للبلدان غير الرأسمالية إمكان الانتقال إلى النظام الاشتراكي من غير المرور من الرأسمالية الصناعية، وأن القوة الفعلية فيها ليست العمال بل الفلاحون.
لا مراء في أن المنظور الهايدغري للخطيبي هو الذي جعله يطور مفهومي الهوية والاختلاف لدى أستاذه، ثم كما طوره التفكيك الديريدي، ليتحدث عن مفهومين يلزم الانتباه لهما: الهوية العمياء التي ترفض الآخر وغمض عينيها عنه، والاختلاف المتوحش الذي يمكن القول إنه بمعنى ما الرديف الممكن لتلك الهوية العمياء. إن الخطيبي يتموقع في البين بين، ذلك الفاصل الواصل الذي يتحدث عنه دريدا بمفهوم النفي المزدود: لا هذا ولا ذاك، إيما بمقولة هايدغر الشهيرة: كل نقيض هو بشكل ما شبيه لنقيضه. وهنا ينتقد الخطيبي ضمنا فكر اليسار الذي عايشه في المغرب، الذي يرفض الغرب بشكل مطلق، وينتقد السلفية والإسلاموية التي ترى في الماضي موطن الهوية.
النقد المزدوج هو إذن إمكانية إعادة صوغ الهوية كي تتخلى عن عمائها والاختلاف كي لا يظل مطلقا. إنه بمعنى ما نقد للعروي في إيمانه بحتمية التطور التاريخاني المتسلسل، في نفيه للماضي من أجل المستقبل. أما الخطيبي فيعتبر أن الماضي يعيش في الحاضر والمستقبل، وأن تطورنا ينبغي أن ينطلق من الهنا لمعانقة الآن، أي في تركيبة جديدة تنتقد الغرب في هيمنته وتستوحي فكره التحرري، وتنتقد الذات في جمودها، كي تحررها باتجاه ما يوجد فيها من تعدد وثراء داخلي. وفي هذا البين بين، باعتباره مزيجا مركبا، يستعيد الخطيبي الماضي في انفتاحه والمستقبل في ممكناته.
هل كذّب التاريخ تصور الخطيبي أم تصور العروي؟
هذا ما يلزمنا التفكير فيه اليوم بالكثير من اليقظة…
عقودا بعد هذا السجال، جاءت التحولات لتنسيب قول هذا وذاك. فضروة العقل غدت مسألة فكرية هامة في الوقت الراهن، حيث تسود الشعبوية الإسلامية اليوم سياسيا في العديد من البلدان العربية، وبعد أن تفككت العديد من الأنظمة، واستعادت روسيا مكانتها في التوازن الاستراتيجي العالمي، وصار العالم العربي بشكل جديد يعيش إمبرياليتين: سياسية واستراتيجية من جهة وبصرية وتكنولوجية من جهة ثانية. الوضع اليوم صار أعقد، والتحولات الحالية تجعل بلدان العالم تطورها التقني والتاريخي لأنها تعيش مباشرة في تزامن مع الزمن العالمي بفضل تقنيات التواصل.
من ناحية أخرى، صار الكل تابعا اليوم لأميركا وغوغل وآبل وفيسبوك بالحدة نفسها. السياسة الأميركية تشتغل في الواقعي وغيرها يشتغل في ما تبقى. بيد أن الفسحات الهامشية التي تتركها الإمبريالية التكنولوجية تمكن على الأقل من ممارسة العقل والنقد المزدوج، لكن في إطار آت من الآخر… لهذا كان الخطيبي يقظا فدعا إلى الاستعمال الجيد لهذه التكنولوجيا… وهو يعلم علم اليقين أن التكنولوجيا ابنة الميتافيزيقا… هل يمكن إذن تقويض ميتافيزيقا التكنولوجيا، باعتبارها مصيرا، من الداخل؟ هذا هو السؤال الذي لم يكتب للخطيبي أن يجيب عليه لأنه توفي في عز انبثاق مواقع التواصل الاجتماعي، وقبل أن تغدو فضاء لممارسة الثورة والثورة المضادة.
أما العروي فلا يبدو أنه يهتم كثيرا بهذه التحولات، إذ هو يهتم بالبنيات الكبرى أكثر من التغييرات المتسارعة… فهل يمكننا أن نكون اليوم تاريخانيين، ونؤمن، في ظل هذه التحولات الجارفة، بإمكان الخلاص التاريخي؟ ذلك هو السؤال الذي يلزم على العروي أن يجيب عليه، مادام على قيد الحياة…
أما الخطيبي، وهو في مثواه، فليتأكد أن مفاهيمه مازالت ذات طابع إجرائي، ولم يطاولها الصدأ… بالرغم من أن العرب لم يستوعبوها جيدا… لكنها ما تزال تحيا وتحتاج للتحيين…
المصدر: العربي الجديد