قاد تراجع شعبية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين؛ على خلفية رفعه سن التقاعد وتدني مستوى المعيشة في بلاده، والحصار الذي يواجهه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بتحقيقات المحقق روبرت مولر بشأن تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية؛ وبضغوط الكونغرس لاتخاذ موقف صلب ضد السعودية؛ على خلفية قتل المدنيين في اليمن وقتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول؛ وهبوط مؤشرات الأسواق الأميركية، قاد هذا كله إلى تصعيد سياسي وعسكري في أكثر من ملف وقضية، في سعي من الرئيسين إلى تشتيت انتباه الرأي العام المحلي بإيجاد بؤر ساخنة تشد المواطنين، بعيدا عما ينتظرهم نتيجة سياساتٍ وقراراتٍ ستنعكس سلبا على حياتهم ومستقبلهم.
في هذا السياق، جاء هجوم البحرية الروسية على ثلاث قطع بحرية أوكرانية في مضيق كيرش، واحتجازها واعتقال بحارتها، بذريعة انتهاكها المياه الإقليمية الروسية، وأثبت الأوكرانيون بالخرائط أنهم كانوا في المياه الدولية عند مهاجمتهم من البحرية الروسية، تطبيقا لنصيحة منسوبةٍ إلى فياتشيسلاف كونستانتينوفيتش فون بليهيف، وزير الداخلية في عهد القيصر نيقولا الثاني، تقول: “لتفادي الثورة، نحتاج إلى حرب صغيرة منتصرة”، يتبعها بوتين في سياسته، وفق المحلل السياسي الروسي تيخون دزيادكو. وقد شن الكرملين ووزارتا الخارجية والدفاع الروسيتان وأعضاء لجان برلمانية في مجلس الدوما هجوما دبلوماسيا وإعلاميا عاصفا ضد الدور الأميركي في الشرق الأوسط، خصوصا في سورية، والعالم، ردا على مواقفها من معاهدة نزع الأسلحة النووية متوسطة المدى (من 500 إلى 5500 كلم)، عبر الرئيس الروسي عن استعداد بلاده للانخراط في سباق تسلح، ومن مسارَي أستانة وسوتشي، مع تركيز خاصٍ على دورها في منطقة شرق الفرات، تتهمها موسكو بالمسّ بوحدة الأراضي السورية عبر تشكيل مؤسساتٍ موازيةٍ لمؤسسات الدولة السورية على طريق إقامة دويلة كردية، واعتمادها دبلوماسية العقوبات، وتحرّكها لإقامة قواعد عسكرية في قبرص، لموازنة الوجود العسكري الروسي في سورية، “لن يبقى من دون رد”، وفق الخارجية الروسية.
صعّد الرئيس الأميركي، هو الآخر، في ملفات خارجية، توسّع في استخدام دبلوماسية العقوبات؛ عقوبات ضد الصين وروسيا وإيران وتركيا والاتحاد الأوروبي وكندا، لوّح بالانسحاب من معاهدة نزع الأسلحة النووية متوسطة المدى، ما لم تلتزم روسيا بمقتضياتها. وحدّد وزير الخارجية، مايك بومبيو، موعد الانسحاب خلال ستين يوما، أي حتى 14 /2 /2019، ودعا إلى زيادة الإنفاق الدفاعي وإطلاق “قوات فضائية”، ألغى اللقاء مع الرئيس الروسي على هامش اجتماعات مجموعة العشرين في الأرجنتين؛ وطيّر طائراتٍ حربيةً أميركية فوق أوكرانيا، طلعات جوية اعتبرها معلقون غير اعتيادية، ردا على مهاجمة البحرية الروسية القطع البحرية الأوكرانية. وأعلنت واشنطن، على لسان المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري، عن وصول مساري أستانة وسوتشي إلى طريقٍ مسدود؛ وهي التي ترى في التمسّك الروسي والإيراني بالمسارين إخفاءً لرفض نظام الأسد المشاركة في العملية السياسية، برعاية الأمم المتحدة. وضغطت على الأمين العام للأمم المتحدة والمبعوث الأممي الجديد إلى سورية، غير بيدرسون، للبحث عن جدول أعمال جديد للمسار السياسي، واتفقت مع “المجموعة المصغرة”، مكونة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا والسعودية ومصر والأردن، على عدم إعطاء شرعيةٍ دوليةٍ لأي لجنةٍ دستوريةٍ تشكلها منصة أستانة. وأعلنت تأييد الموقف التركي في إدلب، حيث التخطيط المشترك بين الولايات المتحدة وتركيا يتضمن دعم الأخيرة في إدلب أيضًا، وفق جيفري. (وكذبت الرواية الروسية عن استخدام أسلحة كيماوية في قصف أحياء في حلب من قبل فصائل معارضة، ولوحت بفرض حظر طيران فوق شمال شرق سوريا؛ وبفرض عقوبات جديدة على النظام السوري، وفرضت عقوبات على مسؤولين وشركات عامة وخاصة روسية وصينية على خلفية خرقها العقوبات الأميركية على إيران، في هذا الإطار جاء اعتقال منغ وانزو المدير المالي لشركة هواوي الصينية الالكترونية العملاقة في كندا بطلب أميركي، وصعّدت الحرب التجارية مع عدد من الدول) هذا المقطع حذفته الجريدة لاعتبارات تتعلق بالحجم..
من بين الملفات المفتوحة بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، وهي كثيرة، يبقى الملف السوري أكثرها عرضة للاستثمار والتسخين، في ضوء توفر شروط صراع “نظيف” عبر إدارة تناقضات وتوازنات مسرح مكتظ بالقوى والخطط والبرامج، ما يتيح توظيف قوى وقدرات محلية في إطلاق حربٍ بالوكالة، فتركيز روسيا على الأوضاع شرق الفرات هدفه ليس الولايات المتحدة فقط، بل وتركيا التي تريد من خلال تضخيم مخاوفها مما يحدث هناك دفعها إلى الاصطدام بالقوات الأميركية لتعميق الافتراق بينهما عل واشنطن تسحب اعتراضها على عملية عسكرية روسية إيرانية في إدلب التي تحاول وضعها على الطاولة مجددا؛ بذريعة عدم نجاح تركيا في الفصل بين الفصائل المعتدلة والمتشددة؛ وعدم التزام الفصائل المتشددة بوقف إطلاق النار؛ ناهيك عما قالته: “استخدامهم أسلحة كيميائية في قصف أحياء في مدينة حلب”، وقصف الطائرات الروسية مواقع للفصائل “لمعاقبة الإرهابيين الذين استخدموا السلاح الكيميائي”، وفق بوتين، وإرضاء إيران والنظام اللذين لم يقبلا اتفاق سوتشي حول المحافظة، وعملا على تقويضه عبر خرقه، لاستدراج رد فعل الفصائل وإقناع روسيا بالتخلي عنه، والمشاركة في الهجوم عليها، فاجتياح إدلب يحقق لروسيا مكاسب جغرافية ترجّح سيطرتها على السيطرة الأميركية، ويخلط الأوراق ويضع منطقة شرق الفرات على نار حامية، خصوصا أن إيران تسعى إلى التصعيد ضد الولايات المتحدة، لتحسين شروط التفاوض معها حول برنامجها النووي والصاروخي ودورها الإقليمي. روسيا حتى الآن مع ضربات موضعية كجزء من إدارة التناقضات والموازنة بين مطالب كل من إيران وتركيا للمحافظة على التفاهم مع تركيا، على أمل أن تقوم تركيا بمشاغلة القوات الأميركية شرق الفرات، وتشتيت انتباهها وتحجيم دورها. لذا فإنها تنتظر إعلان تركيا عجزها عن تنفيذ بنود اتفاق سوتشي حول إدلب، لكي يأتي هجومها على المحافظة تحصيل حاصل، وبتسليم تركي كامل في ضوء نتيجة محاولة تنفيذ الاتفاق.
أخذ رد الولايات المتحدة على استثمار روسيا الاتحادية لعلاقتها القلقة مع تركيا على خلفية تحالفها مع “قوات سورية الديمقراطية”؛ أشكالا عدة، في مسعى إلى موازنة إجراءاتها الميدانية (إقامة نقاط مراقبة في عين العرب (كوباني) وتل أبيض ورأس العين والدرباسية وعامودا؛ والتخطيط لتدريب أربعين ألف مقاتل من أبناء المنطقة) دعما لـ “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، من العمل على إعادة صياغتها بإبعاد قادة الصفين الأول والثاني فيها في محافظة الرقة، ووضع قادة سوريين عرب في مواقعهم لتبديد مخاوف أهالي المحافظة من الهيمنة الكردية، إلى الإعلان عن إشراك تركيا في مراقبة مناطق حدودية شرق الفرات، على شاكلة الاتفاق في منبج، والإعلان عن أن التعاون مع (قسد) “مؤقت وتكتيكي”، إلى تحديد ملامح الحل في سورية بطرح محددات النظام الجديد: حكومة سورية لا تدفع نصف سكانها إلى مغادرة البلاد، ولا تشنّ حرباً إجرامية على شعبها، ولا تستخدم الأسلحة الكيميائية، ولا تهدد جيرانها، ولا توفّر قاعدةً لمشروع الطاقة الإيراني، ولا تنشئ أو تتسبب في إنشاء حركات إرهابية مثل “داعش”، إلى الإعلان عن أهمية التنسيق الأميركي التركي للوصول إلى حل نهائي في سورية، ناهيك عن تأكيدها المتكرّر حول تأييد الموقف التركي في إدلب، وإصرارها على إخراج إيران، منافسة تركيا في سورية ووسط آسيا، من سورية وإضعافها يصب في مصلحة تركيا.
تركيا واقعة بين تعاون مع واشنطن، يتيح الضغط على النظام السوري ويدفعه إلى الانخراط في العملية السياسية، للتوصل إلى حل متوازن ومقبول، وهذا يفتح مجالا لعودة الدولة السورية إلى شرق الفرات، ويقود إلى الحد مما تعتبره مخاطر على أمنها القومي؛ والتخلص من عبء اللاجئين، والحاجة إلى مراعاة روسيا، لأن استمرار سيطرتها على مناطق واسعة شمال سورية وشمال غربها مرهون برضا روسيا ومباركتها، استمرارية السيطرة حيوية لها لاستكمال مشروعها في إيجاد موطئ قدم دائم عبر إعادة هندسة المنطقة سكانيا وعمرانيا وربطها بها لغويا وثقافيا وتعليميا واقتصاديا. وهذا لا يتعارض مع الموقف الروسي الذي يعطي الأولوية لاستعادة النظام السيطرة على جميع الأراضي السورية على الحل السياسي؛ في حين تعطي تركيا الأولوية للحل السياسي، فقط بل ومع الموقف الإيراني الذي ينطلق من الحسم العسكري وصياغة دستور يلحظ مصالحها في الوجود والنفوذ، ولا يمس التغييرات التي أحدثتها على صعيد التركيبة السكانية والمذهبية.
إدلب على موعد مع مواجهة كبيرة، فالرئيسان المأزومان لن يتوانيا عن إشعال حريق بمبرّرات “منطقية”، مصلحة الولايات المتحدة المحافظة على اتفاق سوتشي حول المحافظة لإبقاء النار بعيدة عن شرق الفرات، وهي مصلحة لتركيا والمواطنين القاطنين فيها، سيقول ترامب، ومصلحة روسيا حسم الموقف فيها تمهيدا للانتقال إلى مواجهة الوجود الأميركي والتركي في شمال سورية وشمال شرقها وغربها، وهي مصلحة للحلفاء إيران والنظام، سيقول بوتين. ما يستدعي من المواطنين والقوى السياسية والمدنية عدم الركون إلى الوعود والتطمينات، والاستعداد لملاقاة الحدث بموقف وطني موحد ومتماسك، يعبر عن مطالب الشعب، ويعمل على حماية المواطنين، وتوفير أمن وسبل عيش مقبولة في ظروف سياسية وعسكرية قاسية وخطيرة.
المصدر: العربي الجديد