أثيرت في الفترة الأخيرة قضية القواعد العسكرية الإيرانية في سوريا، ودخلت أطراف متعددة مختلفة على القضية؛ التي وإنْ رفضتها قوى دولية وإقليمية ومحلية من بوابة العداء لوجود وسياسة إيران في سوريا، كما هي حال الولايات المتحدة ودول الخليج العربية وإسرائيل، وكل من زاويته الخاصة، فإن أطرافاً أخرى ذات علاقة مع إيران؛ بينهم الروس ونظام الأسد، أظهروا من زاوية مصالحهم أيضاً معارضتهم وجود القواعد العسكرية، مما دفع بإيران لنفي وجود تلك القواعد.
نفي طهران لا يعكس حقيقة الحال؛ بل هو نفي شكلي يتوافق مع الظروف السياسية المحيطة بوجود إيران من جهة؛ وجملة المواقف الدولية والإقليمية والمحلية، التي باتت ترى في وجود إيران العسكري وسياستها من بين معوقات حل مقبل للقضية السورية، وأنه يمكن لغياب إيران أن يكون عاملاً مساعداً للسياسة الروسية في شقها السوري، وخطوة يمكن أن تساعد في إعادة تطبيع علاقات نظام الأسد الخارجية من جهة أخرى. ومن هاتين الزاويتين يمكن فهم الاعتراض الروسي – السوري على قواعد إيرانية في سوريا.
ولعله من المهم تناول طبيعة الوجود العسكري الإيراني في سوريا، لأنه يكشف حقيقة القواعد العسكرية وطبيعتها، التي تبدو مختلفة، إلى حد بعيد، عما هو شائع ومعروف في فكرة القواعد العسكرية.
يتألف الوجود العسكري الإيراني في سوريا من كتلتين؛ الأولى تمثلها قوات رسمية إيرانية فيها نوعان؛ الأول، وهو الأقل عدداً، يتألف من خبراء عسكريين وأمنيين، واتصالات أخرى، ويعمل جل هؤلاء في مواقع ومراكز تتبع الجيش والقوى الأمنية السورية وفي مراكز ذات حساسية عالية بالنسبة لنظام الأسد، ولا يشترط وجود هؤلاء وعملهم أن يكونوا في قواعد تخصهم، وإنما يوجدون ضمن مقار تتبع مؤسسات النظام وأجهزته. والنوع الثاني من القوات الرسمية الإيرانية وحدات عسكرية منظمة ونخبوية، تشكل جزءاً من «فيلق القدس» التابع لـ«حرس الثورة». وحسب تقارير، فإن هؤلاء يتمركزون داخل قواعد تابعة للنظام؛ أهمها مطار دمشق الدولي الذي يعد المقر الرئيسي لقيادة القوات الإيرانية، وتجعله نقطة ربط مباشر مع إيران لتأمين احتياجاتها؛ بما فيها التموين والتسليح والدعم البشري، ومنه يتم الإشراف على قواتها العاملة في دمشق ومحيطها، والتواصل منه مع امتداداتها؛ لا سيما مطار «ضمير» في القلمون الشرقي، وقاعدة الشعيرات الجوية قرب حمص، ومطار التياس(T4) القريب من تدمر وسط البادية السورية.
والكتلة الثانية من الوجود العسكري تمثلها أولاً الميليشيات التابعة لإيران بصورة شبه كاملة، رغم تعددية أسمائها وتنوع جنسيات المنضوين فيها، وفي عدادها تنظيمات محلية أنشأتها إيران من سوريين وفق دواعٍ طائفية أو عشائرية أو مناطقية، وقامت بتنظيمها وتمويلها وتسليحها. وثانياً تمثلها ميليشيات لبنانية أبرزها «حزب الله» الذي يعد رأس حربة إيران في المنطقة، وكان أول أدواتها تدخلاً في سوريا. وتشكل الميليشيات العراقية ثالثة المجموعات؛ أبرزها وأكبرها وأقدمها في سوريا «لواء أبو الفضل العباس» الذي يكاد يتحول إلى ما يشبه «حزب الله» اللبناني. ورابع المجموعات، ميليشيات نظمتها ودربتها وسلحتها إيران وجلبتها إلى سوريا؛ بينها ميليشيات أفغانية منتظمة في لواء «فاطميون» ولواء «زينبيون» المؤلف من الباكستانيين، وقد استعمل الإيرانيون هذين التنظيمين رأس حربة على جبهات القتال المختلفة.
وإذا كان الوجود العسكري الإيراني قد وجد في المعسكرات والقواعد الجوية لجيش النظام مكاناً يستقر فيه، دون الحاجة إلى قواعد تخصه، فإن الميليشيات التابعة لإيران اتخذت لها قواعد علنية، يمكن أن يستثمرها الإيرانيون في أي وقت يرغبون، وتتوزع أهم قواعد الميليشيات التابعة لإيران في غوطة دمشق الغربية، وغرب القلمون وفي ريف حمص الغربي، ولـ«حزب الله» اللبناني قواعد رئيسية وخاصة في القصير، فيما تقيم أغلب الميليشيات الأخرى قواعد رئيسية لها في السيدة زينب ومحيطها في جنوب دمشق.
وإذا كان وجود إيران قد بيّن طبيعة القواعد العسكرية التابعة لها، فإن الأهم من القواعد العسكرية، ما أسسته إيران وطورته على مدار 4 عقود مضت، فقد أسست خلالها قاعدة للسيطرة على النخبة الحاكمة؛ بدءاً من رأس النظام، وصولاً مسؤولين صغار فيه، ثم مدت قاعدة سيطرتها نحو فعاليات اجتماعية واقتصادية وثقافية، وحققت نجاحاً لدى بعض تلك الفعاليات، كما حققت نجاحاً، ولو محدوداً، في نشر التشيع الإيراني، وعززت سيطرتها على الجزء الرئيسي من الشيعة السوريين في إطار عملية تجييش طائفي بمشاركة النظام أولاً، ثم بمساعدة غير مباشرة من جماعات التطرف والإرهاب من «داعش» و«النصرة»، وأخواتهما… وكلها، إلى جانب مجريات أخرى، جعلت من سوريا قاعدة واسعة ومتعددة لإيران، وليس مجرد قاعدة أو قواعد عسكرية.
وتضعنا النتيجة أمام حقيقة أن مواجهة إيران في سوريا لا تتركز، ولا ينبغي لها، على وجودها العسكري فقط؛ بل ينبغي أن تكون شاملة ضد كل ما صنعته إيران في 40 عاماً مضت؛ وأوله نظام الحكم الذي صار تابعاً لها بقدر يقارب تبعيته لحليفها الروسي. ودون القيام بهذه الخطوة، فقد يكون بلا نفع للعالم أي إجراء ضد إيران في سوريا.
المصدر: الشرق الأوسط