ليس أمرا عاديا أن تنسحب واشنطن من منطقة سورية استراتيجية المزايا، غطّتها في وقت قصير بقواعد عسكرية، ينافس بعضها قاعدة حميميم الروسية. وقد دفع الانسحاب مختلف الأطراف إلى إعادة النظر في حساباتها من الصراع على سورية وفيها، بينما هرع ترامب إلى العراق، ليجعل من لقائه جنودا أميركيين مناسبةً لامتصاص ارتدادات قراره بالانسحاب الذي أغضب جنرالاته وساسة حزبه الجمهوري، والحزب الديمقراطي المعارض، في توافقٍ ندر أن عرف تاريخ أميركا مثيلا له. كان الرئيس التركي أردوغان أول من قام بوقفة مراجعة لخططه التي كان قد أعلنها، وحدّد فيها موعد دخول جيشه إلى شرق الفرات، متجاهلا تحذير واشنطن من وقوع صدامٍ بين جيشي البلدين الحليفين. قرّر أردوغان وقف عمليته العسكرية، والتفاوض مع موسكو، على الرغم من توصله إلى تفاهم مع واشنطن التي أعادت النظر في انسحابها، فلم يعد سريعا وفوريا، وسيتم تنسيقه مع الجيش التركي، لكن أردوغان بدا كأنه سيربط موقفه النهائي بالتفاهم مع بوتين، على الرغم من أنه ليس مؤكدا، وقد يعدّل خططه، لا سيما وأنه أخرج ورقة الأسد من جرابه، وأعلن وجوب إعادته إلى المنطقة، مع أن ذلك يرجح أن لا يكون ممكنا، وقد تؤثر سلبيا على علاقات البلدين، ليس فقط لأن ممثلي الكرد فيها يضعون شروطا سياسية لعودته، وطالما رفض ما يماثلها، ما أغلق ملف المصالحة معه، ومنع جيشه من احتلال المنطقة.
هل سيساعد الجيش الروسي الأسد على استرداد منطقةٍ اتخذت أنقره قرارا ملزما بطرد القوات الكردية منها، وبالتصدي للجيش الأسدي بالضرورة، في حال تحالف معها، أو أبقى بعضها في منطقةٍ تعتبر تركيا وجوده فيها تهديدا مباشرا لأمنها القومي؟ ماذا سيكون موقف روسيا عندئذ، هل ستقاتل إلى جانب الأسد فتخسر علاقاتها الفائقة الأهمية مع إسطنبول، أم تتخلى عنه فيهزم؟ وماذا يبقى لموسكو غير تفادي السقوط في هذه الهاوية، والذي يترك لها خيار البحث عن تسوية بين أردوغان والأسد، على حساب الكرد وحسابه، ليست أنقرة بحاجة إلى تقديم تنازلاتٍ لتحقيقها، بسبب موقفها الذي تعزّز كثيرا بقرار واشنطن تسليمها المنطقة جزءا بعد آخر، وتعهدها منع وقوع قتال ضد جيشها، الأمر الذي لا يبقي أي خيار لـ”وحدات حماية الشعب” غير قبول العودة من دون شروط إلى الأسد، أو بشروط قريبة من شروطه، لكن هذا احتمال ضعيف بدوره، بما أنه يورّط موسكو في مشكلاتٍ، هي في غنىً عنها، ليس فقط مع تركيا، وإنما أيضا مع أميركا.
لا تختلف حسابات إيران عن الحسابات الروسية، إلا إذا قرّرت خسارة علاقاتها مع تركيا التي تعتبر بين الأهم في علاقاتها الدولية، كي تساعد الكرد على خوض حرب عصاباتٍ ضد الوجود التركي شرقي الفرات، ليست مؤكدة النجاح.
ما العمل لمواجهة هذا الاحتجاز الشامل؟ هل يتراجع ترامب عن قراره، ويعزّز قواته شرق الفرات، بدل سحبها منه، في إطار شراكة مع الجيش التركي، وقبولٍ مشترك باستبدال حزب العمال الكردستاني بالمجلس الوطني الكردي الذي سيطمئن تركيا قبوله بحل للمسألة الكردية في الإطار السوري، وافتقاره إلى مليشيات؟ أم سيتم تفاهم روسي/ تركي/ إيراني حول وضع جديد للمنطقة، ستقبض واشنطن ثمن قبوله في العراق وسورية، لن تنجزه الدول الثلاث، من دون توجهاتٍ سياسيةٍ جديدة، تقر باستحالة إيجاد تسويةٍ تحفظ هيمنة حزب العمال الكردستاني على كرد سورية، ومساحات واسعة من أرضها، بعد أن سقط دوره في محاربة “داعش”، وتخلت واشنطن عنه، وصار الابتعاد عنه الخيار الأفضل للجميع.
هل يقرر الحزب مغادرة سورية، وترك كردها يحلون مشكلاتهم بالحوار مع داعمي حقوقهم باعتبارهم سوريين، فيقدّم خدمة تاريخية لهم؟
المصدر: العربي الجديد