أفراح ناصر
نشرت الصحافية ديانا مقلد مقالاً مصوّراً بعنوان “صحافية أم ناشطة؟”، فتناقش من خلال السؤال الذي تتلقاه عادةً في الفترة الأخيرة مواضيع عدّة: دور الصحافة، الموضوعية والنشاط الحقوقي وما هو الخط الفاصل بين كل تلك الأمور. تسأل ديانا “هل يحق لنا كصحافيين إعلان موقفنا الشخصي من حدث أو من قضية؟” في الخلاصة تستخلص ديانا مقلد، صاحبة 25 عاماً من الخبرة في المجال الصحافي، أن مهمة الصحافيين هي الوصول إلى الحقيقية، ونقل الخبر مع السياق اللازم، بصدق تام. “علينا أن نكون صادقين وليس حياديين”، تختم ديانا.
سؤال بطريركي
أجد أن هناك دلالة مهمة في عنوان المقال، فديانا لم تعنون مقالها المصوّر بـ “صحافيين أم ناشطين؟” أو “صحافيين/ات أم ناشطين/ات؟”. بالنسبة إلي هذا السؤال يُطرح فقط على النساء الصحافيات عموماً، ونادراً ما يُسأل الصحافي الرجل “صحافي أم ناشط؟”، فالسؤال الدارج للرجال الصحافيين “صحافي موضوعي أو صحافي منحاز؟”، كأن المجتمع يحب أن يشكّك في عمل الصحافية المرأة ويضعها في خانتين مختلفتين: “إما أنتِ صحافية أو لستِ صحافية من الأساس”. أما الصحافي الرجل فيوضع في إطارين ضمن الخانة نفسها: “أنت صحافي موضوعي أو صحافي غير موضوعي، لكنك تظل صحافياً في الخلاصة”. وكأن النظرة النمطية عن أن النساء تتحكّم بهن العاطفة (عكس الرجل) تطبّق على المرأة الصحافية أيضاً. رأيت كثيرات من الصحافيات اللواتي إذا ما كان لهن رأي اتُّهمن بأنهن عاطفيات منحازات إلى حقوق الإنسان. أما إذا أعرب الصحافيون الرجال عن رأيهم، فإما أن يكونوا مع هذا الحزب أو ذاك.
في نظري، السؤال “صحافية أم ناشطة؟” هو نتاج النظام البطريركي في المجتمعات العربية التي ترفض التكافؤ بين الرجال والنساء في نواحي الحياة كلها، ومنها مجال الصحافة والإعلام، وتحديداً الصحافة السياسية. الهيمنة الذكورية في الإعلام العربي تضع الأصوات النسائية في قوالب محدودة، فإذا ما أرادت الصحافية الأنثى أن تقتحم (بطبيعة الحال لا بد أن تدخل المجال بقوّة أمام التحديات والهيمنة الذكورية) هذا المجال، يتم التشكيك في اختيارها للمجال الذي تختاره، لا بل سيخبرونها أن “المجال السياسي ليس لها، وعليها فقط البقاء في المواضيع الترفيهية والإجتماعية”. وإذا ما خالفت هذه التوقعات يتم التشكيك في تغطيتها الصحافية وينظر إليها كناشطة وكأن هناك اعترافاً ضمنياً بأن اقتحامها المجال السياسي يعتبر نشاطاً راديكالياً.
أرى أن قلّة من الرجال الصحافيين يتم التشكيك بعملهم الصحافي وإدراجهم في خانة النشاط الحقوقي أو الإعلامي. لا يحار نظام الإعلام العربي الذكوري في توصيف الإعلامي الذكر، ولكن دائماً يحار في توصيف الأصوات النسائية، فهي تارة ناشطة حقوقية، أو ناشطة اجتماعية، أو ناشطة إعلامية. قد يكون أرشيف الصحافية أكبر من أرشيف الصحافي، إنما سيظل المجتمع يصفها بالناشطة وهو بالصحافي.
السؤال “صحافية أو ناشطة؟” يطاول النساء بالتحديد، ليتمّ تقويض دورهنّ وإضعاف الأصوات النسائية
أتذكر جيداً التحديات التي واجهتها عندما بدأت العمل الصحافي قبل 10 أعوام. بعد أن تخرجت من كلية اللغات في جامعة صنعاء، كنت عازمة على أن أكون كاتبة وصحافية. لم يثنني كلام معلمي في الجامعة الذي قال لي إنني سأكون كاتبة مغمورة فقيرة، أو كلام أهلي أنه لا بد أن ألتزم بالمواضيع الاجتماعية، فليس لي مكان في المواضيع السياسية. كنت أرى أن توقعات كل من حولي، هي عكس ما أريد، إذ كنت أريد أكثر من ذلك. كنت أريد أن أكون صحافية مقروءة تعنى بالقضايا السياسية. كنت على قناعة عمياء بأن كوني أنثى لا يحدّد تطلعاتي أو معرفتي أو مهاراتي. اجتهادي وعملي الدؤوب فقط يحدّدان تطلعاتي. بعد التخرّج عام 2008 وجدت فرصة عمل في صحيفة يمن أوبزرفر (الصحيفة اليمنية الثانية في البلاد الناطقة بالإنكليزية الوحيدة في ذلك الوقت) وشققت طريقي في مناخ إعلامي يهيمن عليه الذكور. ولأنني لم أقتنع بأن كوني أمرأة سيحد من عملي، كنت أتصرّف من منطلق شغفي بالمهنة، وفي مرّات كثيرة كنت أتصرّف بقوة وصرامة. لا أنسى أنه في فترة كنت أنا الصحافية الأنثى الوحيدة في في غرفة التحرير في الصحيفة، ولأن شخصيتي القوية كانت واضحة فكان الزملاء ينعتونني بـ”السيد أفراح” Mr Afrah دلالة على أنني أقوم بعمل الرجال. وكأن هناك تناقضاً بين كوني امرأة وعملي الصحافي. الحق يقال كانت نية زملائي الرجال حسنة.
تجربتي مع برنامج الزمالة في الأمم المتحدة
بالعودة إلى سؤال ديانا مقلد “صحافية أم ناشطة؟”، أجد أن العمل الصحافي والعمل الحقوقي اليوم يتقاطعان بشكل واضح ومباشر. فمن جهة المنظمات الحقوقية تلعب دور صحافي استقصائي مهم، فمثلاً، كل من عمّال منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس واتش، أهم منظمتين حقوقيتين دوليتين اليوم، في مرات كثيرة يتصرّفون كصحافيين استقصائين. العام الماضي نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً عن أعمال وحشية في سجون الأسد في سوريا.
ومن جهة أخرى، صحافيو ومراسلو وسائل إعلامية كبرى، يلعبون دوراً مهماً في الكشف عن قضايا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فقط من خلال وضع الأسئلة الصعبة في المكان المناسب. كانت لي تجربة صحافية في الأمم المتحدة في نيويورك من خلال المشاركة في برنامج زمالة صحافية قبل شهور من هذا العام. من خلال اختلاطي مع مراسلي وسائل إعلامية كبيرة كـ”رويترز”، “سي بي اس”، “سي أن أن”، و”أ ف بي”، وغيرها، رأيت كيف أن الصحافي “الشاطر” هو الذي يطرح سؤالاً يكشف من خلاله انتهاكات حقوقية وقضايا فساد. فهل سؤال الصحافي هو نشاط حقوقي؟ بالطبع، لا. لكن سؤاله يكشف حقائق تساعد المنظمات الحقوقية في عملها.
فمثلاً، عندما تم الكشف عن تقرير” قائمة العار“ عام 2016 للأمم المتحدة من مكتبها في نيويورك بخصوص أهم منتهكي حقوق الأطفال في العالم وكانت السعودية على رأسها، ثم اضطر الأمين العام حينها بان كي مون إلى مسح اسم السعودية، كانت الخطة أن يحدث كل ذلك في صمت. ولكن بعد استقصاء صحافي، تم الكشف عن كل ذلك، وفي النهاية، اضطر بان كي مون إلى الكشف عمّا جرى. في حديث لي مع هذا الصحافي الذي كان السبب وراء كشف الحقيقة، أخبرني بأنه يتلقى دوماً اتّهاماً بأنه غير حيادي ولكن لم يتّهمه أحد بأنه ناشط. لاحظوا الفرق. عندما نشكك بعمل الصحافي الرجل نقول إنه غير حيادي، أي انه ما زال ضمن مجال المهنة ولكنه غير حيادي، أما المرأة الصحافية فعندما نشكك بعملها نرميها فوراً خارج المهنة ونطلق عليها لقب ناشطة.
خلاصة القول، السؤال “صحافية أو ناشطة؟” يطاول النساء بالتحديد بشكل عام، وذلك حتى يتم تقويض دورهنّ وإضعاف الأصوات النسائية. أتمنى من كل الأصوات النسائية ألا تكترث لكل ذلك، وأن تواظب السيدات على عملهن بما يمليه عليهن شغفهن وقناعاتهن.
المصدر: موقع درج