بكر صدقي
تتطاير تصريحات المسؤولين الأمريكيين بشأن سوريا، كأن قرار ترامب بسحب جنوده الألفين من الأراضي السورية ما زال خاضعاً للأخذ والرد، في حين أنه أكد في أحدث تغريداته أنه لم يتراجع عن قراره المذكور. لكنه كذب حين قال إنه لم يحدد جدولاً زمنياً لإتمام عملية الانسحاب.
أما مستشاره للأمن القومي جون بولتون فقد ربط، من إسرائيل التي كان في زيارتها، بين الانسحاب العسكري والحصول على ضمانات تركية بعدم مهاجمة الأكراد في سوريا. الأمر الذي أثار عاصفة غضب لدى أركان الحكم في تركيا، أدت إلى امتناع الرئيس أردوغان عن استقبال بولتون والوفد المرافق له، بدعوى «عدم وجود موعد مسبق»!
ومما قاله بولتون أيضاً قبل وصوله إلى العاصمة التركية أن على تركيا التنسيق مع الولايات المتحدة بشأن أي عمل عسكري في سوريا.
باختصار، عادت أجواء التوتر بين أنقرة وواشنطن إلى ما كانت عليه قبل أشهر. في مؤتمره الصحافي الذي عقده بعد اجتماعه بالوفد الأمريكي، قال إبراهيم كالن إن المباحثات بين الوفدين دارت حول مجموعة مسائل تتعلق بذيول الانسحاب الأمريكي المقرر من سوريا، منها مصير السلاح الذي حصلت عليه قوات وحدات حماية الشعب الكردية من الولايات المتحدة، وكيفية ضمان ألا تملأ المنظمات الإرهابية «أو أي عناصر أخرى» الفراغ الذي سيحدث بعد الانسحاب.
في حين قال ناطق باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي الذي يرأسه بولتون إن الجانبين أجريا مباحثات مثمرة، وفتحا عناوين جديدة لمباحثات إضافية ستتم لاحقاً.
ما الذي يمكن أن نفهمه من هذه التصريحات المتباينة، وكذا من مستوى التمثيل التركي المتدني في الوفد الذي التقى بالوفد الأمريكي، وكان على مستوى مساعدي وزراء الخارجية والدفاع وجهاز الأمن القومي التركي، وامتناع أردوغان عن استقبال الوفد؟
واضح أن الخلافات كبيرة بين الطرفين، بل تبدو العلاقات متوترة للغاية. معبرة هي الصورة التي نشرتها وسائل الإعلام التركية، ويبدو فيها إبراهيم كالن في مظهر المتنمر وهو يتحدث إلى بولتون الذي بدا على وجهه ما يشبه الصدمة. هي طبعاً صورة موجهة إلى الداخل التركي للقول إن تركيا لا تتلقى أوامر من دول أخرى، بل هي قادرة على التنمر حتى على الصقر جون بولتون.
ولكن ماذا عن كل تلك الثرثرات الأمريكية بشأن ضمان حماية الحليف الكردي أو «حماية الأقليات» على ما جاء في إحدى تغريدات ترامب؟ وأي ضمانة يمكن أن يكون أردوغان قدمها للأمريكيين بشأن الحليف الكردي للولايات المتحدة؟
تتحدث بعض التكهنات عن أن الأمريكيين قدموا لتركيا اقتراحات عملية بشأن تدخل تركي في شرق الفرات بما يستجيب للهواجس التركية من قيام كيان كردي متصل على حدودها الجنوبية، وذلك بفتح ممر للجيش التركي من تل أبيض، بحيث ينقطع اتصال الأراضي التي تسيطر عليها «وحدات الحماية»، ويتوغل الأتراك جنوباً لمواجهة بقايا جيوب داعش، مع منع أي احتكاك بينهم وبين القوات الكردية. وبهذه الطريقة يكون الأمريكيون قد حموا حليفهم الكردي وأرضوا حليفهم التركي في وقت واحد.
هل يقبل الأتراك بهذه الصيغة؟ إذا نظرنا إلى تصريحات أردوغان وأركانه ، فلا يمكننا توقع نجاح هذه الصيغة. في حين أن وزير الخارجية الأمريكي بومبيو يؤكد أن أردوغان وعد بعدم المساس بالقوات الكردية!
في الوقت الذي يحفل الفضاء الإعلامي فيه بكل هذه التصريحات والتكهنات المتضاربة، حافظت روسيا على صمتها، فلم تعلق. هل مرد ذلك إلى أن موسكو لا تثق بكلام الأمريكيين، وأنها لم تصدق قصة نيتهم بالانسحاب من سوريا؟ أم أن الأمر يتعلق بتطوير حملات مضادة لمواجهة التقلبات في السياسة الأمريكية في سوريا؟
فجأةً أعلنت قاعدة حميميم عن تسيير دوريات للشرطة العسكرية الروسية في مناطق قريبة من مدينة منبج. فلعل الروس يستعدون ميدانياً لملء الفراغ الذي سيخلفه انسحاب الجيش الأمريكي. ومعروف أنهم يشجعون «الوحدات» الكردية، أي حزب الاتحاد الديموقراطي، على المفاوضات مع النظام بهدف استباق أي حملة تركية قادمة. والصيغة الروسية المقترحة هي تفكيك وحدات الحماية وضم مقاتليها إلى جيش النظام، بحيث يبقون في المناطق التي يسيطرون عليها ولكن باسم «الجيش العربي السوري»! وتسليم المعابر الحدودية للنظام. وبذلك يكون الروس، بدورهم، هدأوا الهواجس التركية من جهة، وقاموا بحماية مقاتلي الوحدات من جهة أخرى!
«عبقرية» روسية في مواجهة «عبقرية» أمريكية، على مذهب لا يجوع الذئب ولا يفنى الغنم.
أما واقع الحال فهو أن الجميع يتسابقون على حماية ذئب النظام الكيماوي، ولا يحفلون بفناء الغنم.
المصدر: القدس العربي