فداء الصالح
التصقت بوالدي صفة «النازح» عشرات من السنوات، التي عاشها على أمل العودة إلى الجولان «مسقط رأسه»، وأنا الآن أعيش مأساته ذاتها مرتين، مرة حين اكتسبتُ صفة نازح بالولادة، وأخرى حين اكتسبتها مجدداً بعد رحلة التهجير القسري إلى الشمال السوري، لأختبر ذلك الشعور بالمغادرة والانتظار على عتبات المصير المجهول.
حين دلفتُ إلى داخل حافلة التهجير، كانت عيون الأشخاص الذين اختارتهم مقاعد الحافلة كيفما اتفق تلتقط صوراً أخيرة للأزقة والطرقات. بدت وجوههم واجمة يعلوها القلق والترقب، وربما منعتهم حالة الذهول من ردّ تحيتي، أو لعلّ فقداني لنصف حاسة السمع إثر قذيفة قديمة حال دون سماعي لإجاباتهم.
«المسنون والأطفال رفقاء جيدون في الحصار الذي دام لخمس سنوات في جنوبي دمشق، يجمعون بين الصمت والضجيج، والأهم من ذلك حالة الرضا التي ترافقهم أينما حلّوا»، قلتُ في نفسي وأنا أتفحص الأمكنة الفارغة في حافلة التهجير، لأختار مكاناً بالقرب من امرأة مسنة وطفل لم يتجاوز الثامنة. وزاد من طمأنينتي رجلٌ في السبعين من عمره أراح جسده المتعب إلى جانبي، صمتٌ رهيبٌ عمّ المكان وسط الضجيج الذي رافق خروج قرابة عشرين ألف مهجر أُجبروا على الخروج قسراً تحت بند المصالحات.
مع انطلاق الدفعة الأولى من الحافلات نحو نقطة التفتيش الروسية، مرّ في بالي ذلك الخاطر العالق في ذهني منذ اتخذت قرار الخروج: ما الفرق بين تاريخ 4/5/2018، وتاريخ 10/6/1967؟ بعجالة شعرتُ أن وجوه «المحتلين» واحدة، طالما أن النتائج متشابهة. سخرتُ من صفة «النازح» الملتصقة بي، «ما الذي سيتغير إذن؟!»، قلتُ لنفسي وأنا أحاول البحث عن سيناريوهات محتملة جديدة حول كيفية الحياة هناك.
منحني تفتيش قرابة 3500 شخص ساعات كافية لمراقبة أصدقاء رحلتي الجديدة، الطفل «غريب» ومعه جدّته أم خليل، والحاج محمد رفيق مقعدي. تكفّلتُ بملاحقة الطفل كثير الحركة، الذي أرهق جدّته، وكانت الصدمة الأولى التي تلقيتها حين عرفت أن «غريب» طفلة، وأنها اختارت لنفسها ذلك الاسم.
شغلني عن متابعة قصة غريب حنقي لرؤية عناصر النظام وميليشياته وهم يفتشون حقائبنا، نحن المجبرون على المغادرة بعد أن أشبعوا فينا إجرامهم من قتل وحصار وتجويع واعتقال، والسلاح الوحيد الذين استطعنا رفعه في وجوههم كان علم الثورة الذي حرّك الرجل الساكن إلى جواري، ودفعه ليطلب من الجميع عدم استفزاز أولئك «الشبيحة» حرصاً على الأطفال والنساء، واعداً الجميع بالعودة والنصر.
حين مرّت الحافلات ببعض حارات دمشق، كان الوقت قد شارف على الثانية عشر ليلاً. على يمين الطريق بدت الغوطة المهجرة غارقة في العتمة، وعلى اليسار أحياء دمشقية مضيئة كانت شاهدة على موتنا. أما على الطريق، فقد كانت سيارات تتجاوزنا بسرعة، وأناس اصطفوا للمشاهدة، تقرأ في نظراتهم التي تسللت عبر الزجاج مزيجاً من مشاعر الخوف والحزن والشماتة، وأصوات لضحكات ساخرة وعبارات بذيئة.
لم يتمالك الحاج محمد نفسه عند وصولنا إلى عدرا العمالية، كانت عيناه تذرفان بسخاء وصمت أيضاً، جميعنا كان ينتظر الوقت المناسب للتخلي عن كبريائه. حاولتُ مواساته، اقتربتُ منه، سألتُهُ مازحاً: «أي لما طلعتو من الجولان بالـ 67 طلعتو مشي على رجليكم، والزنكيل فيكم طلع على ظهر حمار، وهلأ طالع بباص ومو عاجبك». أفرجَ عن ابتسامة شاحبة، عدّلَ من جلسته، وكأنه أراد أن يزيل همّاً يحمله كجبل منذ سنوات، ذلك الهم الذي يتكرر أمامه اليوم، ليعيش الرحلة الأولى مرتين:
«حين خرجنا من الجولان كنتُ في السابعة عشر من عمري، وقتها كنتُ طالباً في الثانوية العامة، صباح العاشر من حزيران صحونا على بيان إذاعي يقول بسقوط القنيطرة، بدأت القطع العسكرية بالانسحاب الكيفي، معظمهم ترك سلاحه وهرب، وحتى اللحظة التي أذيع فيها البيان لم نرَ أي جندي إسرائيلي. كانت الطائرات وحدها ما رأيناه، ليبدأ الأهالي بترك المكان، الجميع يسوق «طرشه –الدواب» أمامه، العائلات خرجت بثيابها التي تلبسها، مئات القرى والمزارع أفرغت من سكانها، الذين اتجهوا إلى مناطق أخرى من ريف القنيطرة، ثم وصل بعضهم إلى درعا وآخرون إلى دمشق وحمص. تشتت الناس في البلاد، دون معرفة الوجهة التي سيختارونها».
بحسب المركز العربي لحقوق الإنسان في الجولان السوري المحتل، يبلغ عدد القرى والمزارع التي فرغت من سكانها في الجولان المحتل 340 قرية ومزرعة، وبلغ عدد النازحين منها وقتها ما يقترب من 130 ألفاً. هنا خريطة مفصلة للجولان المحتل وقراه.
التفتَ إليَّ وهو يقول: «الآن أنت تعرف إلى أين ستتجه، وأن خيمة في مكان ما بانتظارك، أما وقتها فقد افترش الأهالي التراب وملأوا البساتين. خفّفَ الصيف من معاناة الأهالي الذين تفيؤوا ظلال الأشجار، وبين حين وآخر كان هناك من يأتينا بعض الطعام كإغاثة، ولكن المصيبة الأكبر كانت مع دخول الشتاء، إذ سكن الناس البوايك –حظائر الأغنام، وبعضهم بنى بيوتاً من طين. باع كثيرون مواشيهم لتأمين الغذاء الكافي، أما المدارس فباتت حلماً بعيداً، وإن وُجدت فإنه لم يكن مع الأهالي ثمن قلم أو دفتر، وبات البحث عن عمل لتأمين لقمة العيش الشغل الشاغل للصغير والكبير».
تحدّث الحاج محمد بعدها عن نزوحه الثاني، الذي عاشه مع حرب تشرين 1973: «وصلت “إسرائيل” وقتها إلى جسر الصيبراني في سعسع، وهذه المرة كان علينا النزوح مجدداً إلى مناطق بالقرب من دمشق، غدت بعدها التجمع الأكبر للنازحين من الجولان، واستمرت حتى الآن، مثل سبينة وحجيرة والحجر الأسود والتضامن والكسوة وبرزة والقابون والسيدة زينب. كذلك توجه نازحون إلى درعا، حيث مخيم درعا طريق السد ومخيم اليادودة، وإلى غيرها من المناطق السورية كمدينة حمص بنسب أقلّ. ومع اتفاق فض الاشتباك وانسحاب “إسرائيل” من مدينة القنيطرة، مُنع أهالي القرى الحدودية من العودة، وانحصرت العودة إلى مدينة القنيطرة بأبنائها فقط، كما حُظر عليهم الاقتراب من الشريط الحدودي بمسافة كيلو متر واحد، لتبدأ مرحلة جديدة من حياتنا، كان العزل عن المجتمع السوري وصفة النازح سِمتاها الأكثر أهمية.
مع انعدام الأمل بالعودة، وفقدان الثقة من قبل أهالي الجولان، بدأت النازحون بالتكتل بحسب القرى أو العائلات، وشرعوا في بناء ما يشبه البيوت في مناطق عشوائية، كنا ندعو الواحد منها “خربوش”، وكانت بلا خدمات ولا طرق نظامية ولا صرف صحي ولا مساعدات من الدولة، وكثيراً ما كانت هذه “الخرابيش” تتعرض للهدم من قبل البلدية بحجة البناء العشوائي. كان علينا في كل مرة أن نعيد بناءها وأن نرشو موظف البلدية، ومع الزمن باتت هذه المناطق مكاناً للفقراء و«الطفرانين» من مختلف المناطق السورية، والتصق بها اسم “مناطق النازحين” حتى اليوم».
أعادني كلام الرجل الذي استسلم للتعب إلى عشرات الجلسات مع أقراني من معظم المحافظات أيام الدراسة الجامعية، وعبثاً حاولت فيها أن أشرح لهم عن طبيعة الجولان الجغرافية والسكانية فيه. كنتُ أُدهش حقاً كيف يجهل أبناء وطن واحد أي معلومة عن جزء محتل من بلادهم، وكأن الأمر لا يعنيهم. حتى أن أغلبهم كانوا يعتقدون أن الجولان المحتل قرية واحدة أو عدة قرى محتلة على الأكثر، سكانها من الموحدين الدروز، يحاولون مقاومة الاحتلال حتى اليوم، ثم تقف معرفتهم بقضية الجولان كلها عند هذا الحدّ.
أخبرتهم عن عشرات الأنهار الصغيرة والكبيرة في المنطقة، أنهار الوزاني والشريعة والقاضي وبانياس والحاصباني، وعن أكثر من مئة وخمسين ينبوعاً كالجليبينة والسلوقية وطواحينها القديمة، وأكثر من مئة وادٍ غني بالأدغال والمحميات الطبيعية التي تحتوي جميع أنواع الحيوانات البرية والطيور، وكذلك حوالي مئتين من التلال، منها عشرات التلال الشهيرة كتل الفرس والجابية والقاضي والجوخدار، وعن عشرات آلاف النازحين منه، الذين تضاعف عددهم عبر الأجيال حتى كاد يقترب من مليون نسمة، وعن تنويعات سكانه الاجتماعية الكثيرة، من عرب وتركمان وشركس، ومسيحيين ومسلمين سنّة ودروز وعلويين.
في كل مرة كنت أدرك أن النظام عمل على تجهيل أبناء سوريا بهذه المنطقة، من خلال إعلامه ومناهجه التربوية التي غاب عنها حتى ذكر الكم الهائل من الأوابد والكنوز الأثرية في الجولان، فلا ذكر لقلعة حصن سوسيتا وقلعة الصبيبة التي بناها الأيوبيون، ولا قلعتي دير قروح وبانياس، ولا الحمّة بمنتجعها وحمامها الروماني، وهي منطقة ذات ينابيع حارة غنية بعنصر الراديوم المشع ذي الخواص العلاجية، وينابيع أخرى غنية بالمياه الكبريتية الحارة، التي يمتاز كلّ نبع منها بعلاج أمراض مختلفة عن الآخر بحسب خواصه الكيميائية. وكذلك المواقع الأثرية الكثيرة، مثل بلدة بيت صيدا شمال طبريا ومعبد أم القناطر الأثري والمجمع الكنسي لكرسي السيد المسيح في بلدة الكرسي الجولانية، وكذلك موقع تل القاضي (دان)، الذي سعت إسرائيل لإدراجه على قائمة التراث العالمي باسمها، فتم رفض طلبها كونه موجود في أرض محتلة.
لم يكن النظام يحتاج إلى تفعيل قضية نازحي الجولان، ولا التعريف بطبيعتها، طالما أنه ليس على استعداد لخوض حرب من أجل استردادها. كان عليه فقط أن يمحوها من ذاكرة السوريين ويخرجها من حساباتهم، كما خرجت من حسابات القادة المتحكمين بمصائر البلاد.
أجبر الطريق الطويل سائقي الحافلات على الوقوف لمرات عديدة من أجل الاستراحة أو قضاء الحاجة، كانوا يختارون أماكن بعيدة عن السكان تجنباً لأي صِدام. والمفارقة أن رحلتنا شهدت ثلاث حالات ولادة ضمن الحافلات؛ أيُّ مصير ذاك الذي ينتظر طفلاً ولدَ في حافلة تهجير!
عند صعودي إلى الحافلة مجدداً بعد الاستراحة، كان الحاج محمد لا يزال في غفوته، فحاولت استمالة غريب (الفتاة) لتخبرني عن اسمها الحقيقي. كان رفضها قاطعاً، وحين توجهت بالسؤال إلى أم خليل أشارت لها بعدم إخباري. هزّت الجدة أكتافها معلنة تضامنها مع غريب، وطلبت منها إخباري عن المكان الذي أتت منه. سألتُها عن والديها لكن بدا أنني وقعت في المحظور، إذ أشارت لي الجدة بالصمت، لكن دموع غريب وصوتها المتقطع وجد طريقه هذه المرة لتحطيم ما تبقى من رباطة جأشي: «أساساً أنا بنت وبدي صير زلمة، ما بدي حدا يشفق علي، أبوي وأمي وأختي الصغيرة ماتوا بسبينة لما انقصف بيتنا، ومن وقتها قررت صير زلمة وقررت غيّر اسمي لغريب، مثلي يعني، لأنه رح عيش غريب». نزلت الكلمات كالصاعقة على رأسي، لم أنطق ببنت شفه، وانسحبتُ نحو مقعدي لأخلد للصمت.
دامت رحلة التهجير ثلاثة أيام، بعد أن قضينا أكثر من يوم كامل بانتظار موافقة السلطات التركية للسماح للقافلة بالدخول إلى مناطق شمال حلب الخارجة عن سيطرة النظام. بعض القوافل انتظرت خمسة أيام للحصول عليها، وهو الأمر الذي تسبب بصدمة كبيرة لكل المهجّرين. «إذا كانت البداية هكذا، فكيف ستكون الأيام القادمة؟!»، قلتُ في نفسي وأنا أستعيد كلمات الحاج محمد عن ما حصل له، وقد بات لدي تصور كامل للقادم. تمّ توزيعنا على عدة مخيمات في إعزاز وعفرين وريف عفرين، فهنا لا فرق بين خيمة وخيمة، ولا بين مخيم ومخيم، فجميعها تعيش الأوضاع نفسها.
خمسة آلاف عائلة نازحة من الجولان، باتت اليوم مُهجّرة إلى الشمال السوري، يعاني أفرادها أشد المعاناة تحت الخيام، ولكن كثيرين منهم بدأوا مع دخول فصل الشتاء ببناء منازل بسيطة جداً كما فعل آباؤهم قبل نحو أربعة عقود، بناء «خربوش» كما أسماه الحاج محمد، دون مساعدة من أي مؤسسات حكومية أو منظمات إنسانية، ليبدأوا عهداً آخر من النزوح المتجدد، وتلتصق بهم صفة النازح بشكل مضاعف ومركب، يحملون معها ذاكرتهم وذواكر آبائهم وأجدادهم عن الترحال والفقدان.
المصدر: الجمهورية نت