محمد سعدو
سؤال مهم يجب أن نطرحه على أنفسنا أولاً، في هذا الوقت وهذا الحين، وفي ظل المعطيات الراهنة التي لا تبشر بالخير، أو بمعنى أكثر عمقًا لا تساعد على إنجاح مخرجات الثورة.
في ظل هذا العبث والتشتت في الآراء السياسية والاقتتال السياسي الداخلي المعارض، المتمثل بتكتل الائتلاف السوري في إسطنبول، أو الذي على شاكلته من التنظيمات والتجمعات المعارضة والأحزاب المترامية الأطراف، التي أثبتت فشلها في تحقيق أي مكسب سياسي لصالح الثورة، أو تقديم خارطة طريق ليتم السير عليها، سواء في ظل فترة الثورة أو ما بعد سقوط الأسد، أكان على الصعيد العسكري في ساحات القتال، أو سوى ذلك من حالة التبعثر بين الفصائل واقتتالها وخسارة الأراضي المحررة قطعة تلو الأخرى، لأسباب أصبحت واضحة للعيان.
وهذا السؤال في الحقيقة لديه أبعاد كثيرة، وأجوبة مختلفة، لماذا يجب أن تستمر؟ الاجابة هنا كبيرة وكبيرة جدًا، وتتجلى في معاني عميقة، وكلمات تتحدث لوحدها وتشرح لماذا الاستمرار.
الاستمرار نعم ولأجل كل الشعب السوري العظيم، وتضحياته الكبيرة ودمائه الغالية التي راحت فداء لهذا الوطن، وهذه الثورة، ولحلم الحرية/ حرية الرأي والفكر والعمل، حرية بكل معانيها التي كان ينتظرها هذا الشعب منذ ٤٠ عامًا أو يزيد من القهر والظلم والاستبداد، من قبل نظام قمعي متسلط يتمثل في نظام حافظ الأب وبعده ابنه الأرعن، الذي أكمل مسيرة والده بكامل البؤس، وكم الأفواه، واستعباد الشعب والتظاهر على أنهم هم حماة للوطن ولفلسطين، وهم نظام الممانعة الفذ. وهم القلعة الصامدة كما يقولون ويتبجحون، في وجه العدو الصهيوني ومؤامراته. ومع الزمن برهن هذا النظام للسوريين أن كل هذا الكلام ليس إلا هراء وكذب وتضليل، إذ إنه كان مكشوفًا للشعب منذ السنوات الأولى لبداية حكم المجرم الأب.
ويبدو أنه كان في ذلك الوقت لابد من تكسير هذه القلعة المزيفة والمليئة بالأكاذيب والتضليل المستخفة بهذا الشعب العظيم. ففي بداية الثمانينيات، بدأت المعركة والحراك، بدأت أولى الشرارات التي أنذرت بولادة ثورة كبيرة، سوف تسحب البساط من تحت هؤلاء المستبدين.
وبدأت يومها رحلة الصمود رحلة الثورة الأساسية، ورحلة البحث عن الكرامة، رحلة البحث عن كرامة هذا الشعب وحريته. ففي ذاك الوقت لم يكن هناك من وسائل للتواصل الاجتماعي بكمها الهائل وقوتها كما الآن. أو بمعنى أصح لم يكن هناك من وسائل لنشر كل ما كان يدور من أحداث، وما كان يفعله هذا النظام الفاجر وقتها، لصد هذا الحراك الذي خرج في ثمانينيات القرن المنصرم، بالإضافة إلى قلة الإمكانات، وقلة الخبرة السياسية، وطريقة إدارة الأمور والتفاعل مع الحدث، ومن ثم البطش الكبير الذي تم من قبل المجرمين المستأجرين تحت راية عائلة الأسد، والتي حالت دون أن يعلم العالَم والمجتمع الدولي، مدى خسة هذه السلطة، وما حصل يومها.
ومع مرور الأيام علم السوريون بعد كل المجازر والآلام التي حصلت في حينها واقتياد جميع مكونات الشعب السوري إلى السجون والمعتقلات، عبر تهم متعددة ومنها الإرهاب، مع أن كل الأمر أن الناس لم تكن تريد أن يكون الحكم بيد فرد ولا تريد سوريا محتجزة ومحتكرة بيد عائلة واحدة، حينها أدرك الشعب السوري وشاهد تمامًا مدى حجم الكره المبيت لهم ولوطنهم، وأيقنوا أنه لا سبيل إلا التخلص من هذا المحتل.
في ظل هذه الأسباب التي جعلت الشعب في حينها محتقن تمامًا وكاره للنظام، وكل أعوانه ومؤسساته وخاصة العسكرية منها، التي أخذت مشهد الخسة، التي كسرت بها حالة الثقة المتبادلة بينها وبين الشعب، وهي التي كان يفترض أن تكون حامية للوطن من الأعداء الخارجيين وليس سيفًا مسلطًا على رقابهم.
استمرت الثورة وبدأت بالنضوج في داخلها بصمت، رغم كل الذي حصل. وأخذت تحاول أن تستعيد الزخم والقوة من جديد لمباغتة هذا المحتل. وهنا أصبحت عائلة الأسد في أوج قوتها بعد ما فعلته، ظنًا منها أن الشعب لن يعود مرة أخرى إلى الساحات، ويطالب بأي مطلب، خارج عن السيطرة، وخارج عن إرادتهم، وليس هناك كلمة تعلو أو رأي فوق قرار صاحب الشأن والعظمة قائد الوطن حامي الحمى كما كانوا يزعمون.
استمر هذا الشعب بغليانه تعبيرًا منه عن الرفض القاطع لهذا الاحتلال الذي ابتلينا به منذ ٤٠ عامًا ونيف. وفي سنة ٢٠٠٠ كانت الفرحة العارمة بموت المجرم الأب حافظ وبداية حقبة جديدة ربما كانت بارقة خير على الوطن السوري يومها، ظنًا أن كل شيء قد انتهي بموت رأس الحية وأساس السم.
لكن الذي كان لا يعلمه البعض أن هذه الحية مازلت على قيد الحياة، ولها رؤوس عديدة تستطيع أن تبني نفسها من جديد وتكمل مسيرة إجرامها. فبعد موت المجرم الأب تم تسليم السلطة لابنه الذي أخذ في إكمال مسيرة والده المتسلطة على هذا الشعب، من خلال تعديل الدستور وخطه على مقاسه تمامًا، متجاهلًا حالة الغليان الشعبي العارم، وعدم الالتفات إلى أن الثورة قد أصبحت مكتملة، وحالة النضوج الكاملة، والثبات والقوة والصلابة التي تؤهلها لإسقاط هذا الفساد بكافة رموزه وقوته وبطشه.
وفي عام ٢٠١١ كانت بداية النهاية ودق ناقوس الخطر وساعة الحسم مع هذا النظام، الذي دمر ما دمره في الحقيقة من مقدرات هذا الشعب، وهذا الوطن وأماته سريريًا لعشرات، بل عقود من السنين. بدأت الحكاية وبدأ النضال الحقيقي الذي نضج تمامًا وأصبح مستعدًا لجرف كل أوساخ هذا المحتل، الذي عاث فسادًا وخرابًا، والذي أعتبره احتلالًا همجيًا لم يأت مثيل له في التاريخ السوري لا القديم ولا المعاصر.
بداية الحكاية وبداية هذا الكرنفال الوطني الثوري العظيم قدم هذا الشعب السوري كل ما لديه من امكانات لإنجاح مطالبه ولإنجاح ثورته التي كانت أبسط ما فيها هي الحرية والديمقراطية والعدالة لكبح أيادي الدولة الأمنية من فوق رقاب هذا الشعب.
وهنا يتجلى السؤال المهم لماذا يجب على الثورة ان تستمر؟ ويكون الجواب الحقيقي والرسمي الذي تمخض عن كل ما سلف من حديث عن تاريخ ونشأة وولادة الثورة حتى الآن. والجواب بكل بساطة هو: يجب أن تستمر، نعم من أجل ما قدمه أبناء الوطن السوري على مر تاريخ هذه الثورة يجب أن تستمر ويجب أن لا تهدأ حتى استئصال هذا الورم الخبيث من جذوره، يجب أن تستمر لأجل طويل، وهو الصمود أمام الموت والجوع والتهجير القسري والقصف بكافة أنواع الأسلحة، يجب أن تستمر، رغم كل من وقف ضدها، ومن أراد بها أن لا تنجح، بينما كانت ضد مصالحهم التوسعية والسياسية والطائفية المقيتة، والاستمرارية هي هنا بمدى تقديمنا التضحيات الكبيرة والدماء والشهداء، الذين سقطوا دفاعًا عنها وعن حرية هذا الوطن من أيادي الغاشمين .
الاستمرارية من منطلق إيماننا بأن طريق هذا النضال وهذا الكفاح الشعبي العظيم هو طريق يفضي في نهايته إلى الانتصار الحتمي، وتحقيق كافة المتطلبات، رغم التحديات التي نواجهها وكل هذه الشرذمة والتخبط. الاستمرارية يجب أن تكون لأجل أحلامنا ومستقبل أبنائنا لأجل المعذبين في السجون والشهداء الذين سلموا رايتهم لنا لنكون خير ممثلين لهم بعد رحيلهم، لنكمل حكاية صمود حقيقة وحكاية شعب وقضية، أبهرت العالم بأسره وسجلت مكانها في كتب التاريخ مكانًا عظيمًا، حيث سطر أبناءها بطولات سوف يتحدث عنها العالم، وأعطت دروسًا في الإباء والعزة والشرف والشجاعة والدفاع عن حرية هذا الوطن، لأجل أن يحيا الشعب حرًا كريمًا عزيزًا ولمستقبل أفضل لطالما حلمنا به.
عاشت ثورتنا وعاش معها مجد شعبنا العظيم، وما زلنا ندافع على استمرارية هذه الثورة مؤمنين بنصر قادم، مثابرين صامدين مصرين على مطالبنا وأهداف ثورتنا رافضين أن يكون لأجيالنا القادمة ولأحفادنا وأبنائنا حياة مليئة بالظلم والاستعباد لأن الوقت قد أصبح لنا وهذا الزمان هو زمان الشعوب، وليس الأنظمة وحكم الأفراد. الحكم اليوم هو للشارع ومن يريد أن يخالف هذا الشارع فعليه أن يتحمل المسؤولية كاملة.