نصري حجاج
لو نبتعد قليلاً عن المعنى المكرّر للبطولة، ونترك التفجع الذي لا مصدر واحداً له في نفوس المتفجعين، بل مصادر كثيرة ليست كلها آتية من مطارح شفافة، ونغلق خيم العزاء والتبريكات، بكل ما تحمله من معانٍ دينيةٍ في مديح الموت، ونتأمل، ولو قليلاً، رواية حياة باسل الأعرج ومقتله، في سياق التراجيديا الفلسطينية الراهنة، والمعاني المتجددة للبطولة. لم يذهب باسل الأعرج إلى العدو ليواجهه، بل جاء إليه العدو، بحث عنه الجنود مدججين بسلاحهم ومخابراتهم وعملائهم، ليتمكنوا من الانتصار عليه، والتخلص ليس من جسده، بل مما مثله في رواية حياته حول الصراع الأبدي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
لم يشأ باسل أن يكون بطلاً أسطورياً، يذهب إلى حتفه المحتوم بإرادته في مواجهةٍ خاسرةٍ مع عدو متفوق في كل شيء، إلاّ في روايته عن المكان، ولكن باسل كان يشقّ درباً للبطولة، لا البطولة نفسها. كان كمن يرصف الدرب حصاةً حصاةً، وحجراً حجراً، وكان يتعثر هنا أو هناك، لكنه كان عازماً على توضيح معالم الدرب على طريقته الجديدة. وكان ذلك كله يخيف الإسرائيليين، لأن ما كان يصنعه هذا الشاب يزعزع أصل روايتهم عن المكان والتاريخ.
في السنوات القليلة التي عاشها من عمره القصير، كان باسل الأعرج في مواجهةٍ مع جوهر الفكرة الصهيونية، وتمثلاتها اللاهوتية عن فلسطين، منذ عشرات السنين، وخطابها السياسي عن اللحظة المعاصرة حول من يمتلك المكان في علاقته بالتاريخ، قبل تأسيس الدولة، وصراع أصحاب المكان مع المراحل الاستعمارية التي عاشوها. هكذا كان مسار الأعرج، يلتف عليه جمع من الشباب والفتيات، ويجول في قرى فلسطين ومدنها، يحدثهم مثل حكواتي محترفٍ عن تاريخ كل مطرح من هذه المطارح، ونضال أهله ضد المستعمر البريطاني، أو العصابات اليهودية التي أسست لدولة إسرائيل. كان يريد من حكاياته أن يلقي ضوءاً في نفوس هؤلاء، يرون فيه أرضهم نابضةً برفض الظلم والخنوع واليأس السائد. وبسبب هذا كله، خافه الإسرائيليون، وهو لم يكن عضواً في تنظيم، ولا في خلية قتالية، ولا في كتائب أو فصائل. هو مبدعٌ أبدع حكايته عن حكاية التاريخ الحقيقي، وأبدع وسيلته لإحياء الشرايين النابضة في الحكاية، في ظل تلف الممثلين السياسيين لشعبه، إن كانوا في السلطة أو الفصائل المجعجعة بخطاب عافه الدهر، من شدة تحجّره وتكلس مفاهيمه.
هذه هي بطولة باسل الأعرج في لحظة اليأس والضياع الفلسطيني، وانسداد كل آفاق تقود إلى حق هذا الشعب في العيش بحرية واستقلال. بطولته في دربه، والآخرون يريدونها مقتصرةً على مواجهة العدو بمعركة عسكرية غير متكافئة.
هناك اليوم في فلسطين تجارب مختلفة، تعبد دروب البطولة للأجيال المقبلة، في مواجهة الرواية الإسرائيلية. وعلى سبيل المثال، ليس ماراثون فلسطين “اركضوا للحرية” في الضفة الغربية ماراثوناً رياضياً وحسب، بل هو تجربة لمعرفة الأرض، وإيجاد علاقة حميمة وواقعية مع القرى والطرقات في الجبال والسهول، بعد أن كادت فلسطين، بأرضها، تصير صورة ميتة في قصائد الشعراء، وأغنية مملة للفصائل.
يطرح مقتل باسل الأعرج، بهذه الطريقة الوحشية من قوات الاحتلال، عليناً سؤال حماية هذا الدرب، ورعايته، والدفاع عن صانعه، وهو الذي قُتل في قلب رام الله، وبين شعبه في المنطقة أ التي، بحسب اتفاقيات أوسلو، تابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، لكن الأخيرة لم تحرك ساكناً، ولا الناس الذين يعيش بينهم باسل حرّكوا ساكناً، وكأن هذا الفرد الذي أبدع طريقته في المواجهة عاش ومات وحيداً. ويحق لنا أن نتساءل عن الواقع الشعبي الفلسطيني، ومدى استفادته من دروس الأعرج في التاريخ، وليس عن السلطة التي لم تعد المواجهة تعني لها غير مفاوضاتٍ تنتظر أن يتكرّم بها العدو المحتل، ليمدها بأسباب حياةٍ لا حياة فيها.
Comments 1