د_ معتز محمد زين
تحيرني جدا مواقف الكثير من أصحاب القرار والسياسيين في بلادنا العربية.. وأبحث في زوايا العقل جاهدا لعلي أجد مبررا معقولا أو سببا مقنعا أو هدفا استراتيجيا كامنا لبعض القرارات المفصلية التي يتخذها أصحاب القرار والتي ينعكس أثرها على البلد بأكمله وأحيانا على المنطقة بأسرها.. وأدعي أنني أمتلك هامشا من الموضوعية ودرجة لا بأس بها من القراءة التحليلية أستطيع من خلالها أن أجد مبررا للعديد من الممارسات السياسية التي يرفضها عموم الناس وأراها مقبولة بحكم الظروف والامر الواقع وتحت مسمى ” فن الممكن “.. ذلك أن الحكم على أي قضية من موقع المسؤولية والممارسة الميدانية يختلف كثيرا عن الحكم عليها من موقع المراقب والمنظر.. فكثيرا ما تفرض الظروف نفسها على الانسان وتحصره في زاوية لم يكن يتوقع يوما أن يصل إليها.. وكثيرا ما ننتقد بضراوة سلوكا معينا لشخص ما ثم نمارس ذات السلوك عندما نصل إلى ذات الموقع الذي يشغله هذا الشخص، ونتفهم حينها هذا السلوك – وربما نبرره وندافع عنه – من خلال معايشتنا لتفاصيل ومقدمات وضغوطات – لم تكن ظاهرة لدينا – دفعتنا بقوة الى اتخاذ هذا القرار وتبني ذاك الموقف.. يتكرر مثل هذا المشهد كثيرا في حياتنا بين الآباء والأبناء .. المدرس والطالب .. المدير والموظف .. الثائر الميداني والثائر عن بعد .. الكبير والصغير .. الغني والفقير …. وهكذا .
مع استحضاري لكل ما سبق واعترافي به، ومع ادراكي لصعوبة الممارسة السياسية ووعورة طرقها وتعرج دهاليزها، ومع فهمي للاختلال الكبير في موازين القوى بين الشرق والغرب، وتداخل السياسي مع الاجتماعي مع الأيديولوجي مع الاقتصادي مع التاريخي مع الثقافي في بلادنا بشكل معقد للغاية، ومع تفهمي للحالة العصبية التي يعيشها أصحاب القرار الحقيقي وحالة الخوف والاضطراب الداخلي التي يتعرضون لها عند فقدانهم لسلطاتهم شبه المطلقة على شعوبهم .. مع كل ذلك فإنني كثيرا ما أقف مشدوها جاحظ العينين فاغر الفاه أمام قرارات لا يمكن تفهمها أو تبريرها أو معرفة أهدافها إلا عند وضعها تحت عنوان الدور الوظيفي الذي يمارسه موظفون صغار يعملون بأجر لدى جهات خارجية أعلى منهم تضع الخطط وتتخذ القرارات بما يتلاءم مع استراتيجياتها ويخدم مصلحة بلدانها ويكرس سيطرتها على منطقتنا، دون أدنى اهتمام بمصلحة شعوب المنطقة وطموحاتها وتطلعاتها .. بل على العكس من ذلك فكثيرا ما يكون الهدف من هذه القرارات تحطيم معنويات شعوبنا وسحق طموحاتها وتخدير وعيها لأطول فترة ممكنة ..
إن الجروح العميقة التي تصيب جسد الامة والتدمير الاستراتيجي لطاقاتها والقتل البطيء الممنهج لطموحات أبنائها والتي تحققها بعض هذه المواقف والقرارات تدفعنا للاعتقاد بشدة أن أصحابها ليسوا أكثر من عملاء مأجورين تمت برمجتهم وتربيتهم ورعايتهم وتسهيل وصولهم لمواقع القرار بدعم من مشغليهم لأداء مهمات محددة وتحقيق أهداف استراتيجية تخدم مصالح مشغليهم وتقمع أي محاولة لوصول المخلصين لبلادهم وأمتهم إلى موقع القرار أو الاستقرار فيه.. ولعل هذا يفسر تكالب هؤلاء في الداخل والخارج على اسقاط أي حكومة أو رئيس يصل بإرادة شعبية محضة للسلطة سواء عن طريق الثورات أو عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة .. ولعل هذا يفسر أيضا اقبال الشعوب العربية على الانخراط في موجة الربيع العربي ودعمها والتعلق بها كوسيلة محتملة لاستبدال الطبقة الحاكمة الفاسدة بأخرى حرة نزيهة أجندتها الوحيدة خدمة شعوبها والنهضة ببلدها ..
ولولا الخوف من العواقب لعرضت الكثير من الأمثلة في معظم دول المنطقة والتي كانت بعض القرارات المصيرية فيها من هذا النموذج، بحيث جرت البلاد إلى حافة الهاوية ووضعتها على شفير الانهيار وأحدثت شرخا عميقا في مجتمعها جعلته في حالة غليان مستمر وجعلت مثقفيها في حالة ذهول من حجم الكارثة الناجمة عن تلك القرارات .. وأعتقد أن بإمكان أي مثقف في هذه اللحظة استحضار بعض الأمثلة من بلده أو بلد مجاور يخدم هذه الفكرة ويؤكد صوابها .. لكنني سأكتفي بعرض مثال واحد ما زالت مفاعيله قائمة حتى اللحظة .. إنه الإصرار الغريب من أصحاب القرار في الجزائر على ترشيح الرئيس المعاق جسديا وعقليا ونفسيا وعاطفيا للمرة الخامسة لرئاسة بلد عربي كبير وعريق وله ثقل نوعي تاريخي ومعاصر كالجزائر.. الجزائر الذي يمتاز بشعب شجاع ومثقف وحيوي وصاحب نخوة يراد له أن يحكم من قبل رئيس لا يتحرك ولا يتكلم ولا يتبسم ولا يمكنه مسك القلم للتوقيع على قرار تسلمه للسلطة ؟؟؟!!!!.. أي مهزلة هذه !!!!!!!!!!.
يحاول أحدنا أن يبحث عن مبررات معقولة لمثل هذا التصرف الغبي من أصحاب القرار الحقيقي في الجزائر والذين يحكمون البلد من وراء ستار لكنه يفشل في ذلك، فكل المبررات التي يسوقها الاعلام واهية إلى درجة التهتك ولا يمكنها الصمود للحظات أمام العقل والمنطق ومصلحة البلد.. من المبررات التي يطرحها الاعلام لمثل هذا السلوك مثلا اعتبار الرئيس بوتفليقة والذي حكم الجزائر لفترة طويلة بمثابة عقدة تجتمع فيها مكونات الدولة وأن حلها قد يؤدي الى تفكك الدولة بأكملها وهذه واحدة من الأفكار التي اعتاد المستبدون أن يبثوها بين الناس لإيهامهم أن هذا الشخص هو عمود خيمة الدولة والتي ستنهار على رؤوس أصحابها بمجرد غيابه عن المشهد وهو طرح غير صحيح على الاطلاق وفيه احتقار لكل سياسيي ومثقفي البلد واستخفاف بالشعوب وقدرتها على افراز بدائل تجتمع فيها الكفاءة والرغبة بالتطوير، وعلى كل فإن هذا العمود سيسقط بفعل القدر خلال فترة وجيزة على الأغلب فهل ستنهار الدولة حينها ؟؟ .. حتى لو حاولنا تفهم خوف أصحاب القرار الحقيقي من فقدان مناصبهم وخسارة مكتسباتهم التي يحصلون عليها اليوم من وراء الستار البوتافليقي فإن هذا لا يقدم مبررا معقولا لمثل هذا القرار الذي يستخف بالشعب الجزائري وبذكائه ويحتقر مشاعره ويدوس على كرامته ويتجاهل طموحاته وتطلعاته ، خاصة أن القرار أتى والربيع العربي ما زال يلقي بظلاله على المنطقة رغم كل الضربات التي تعرض لها ، وما زالت الشعوب التي لم تنتفض ضد طغاتها تشعر بالمرارة وتعاني من عقدة النقص أمام شقيقاتها التي انتفضت في وجه مستبديها على الرغم من فداحة الثمن وضعف النتائج على المدى القريب .. لماذا اذاً هذا القرار وفي هذا التوقيت.. كان بإمكانهم المحافظة على مكتسباتهم وسلطتهم عبر تسويقهم لشخصية جديدة من داخل دائرتهم وترشيحها بعد ابرازها إعلاميا وتقديمها بصورة البطل المخلص وبأساليب لا تخفى عليهم خاصة أنهم يمتلكون كل الأدوات اللازمة لتحقيق هذا الهدف.. كان من الممكن التعامل مع الشعب الجزائري بقليل من الاحترام وقراءة المشهد بقليل من الموضوعية.. كان من الممكن البقاء في موقع القرار دون إحداث هزة اجتماعية وسياسية لا يعرف أحد إلى أين ستجر البلاد.. كان من الممكن وضع العديد من السيناريوهات البديلة والتي توصلهم لأهدافهم دون كسر إرادة شعبهم.. فلماذا اذاً هذا الإصرار الغريب على إهانة الشعب الجزائري؟؟؟!!!
إن الإصرار الغريب على اتخاذ قرارات مستفزة وتبني ممارسات بعيدة تماما عن دائرة المنطق والمعقول وخارجة عن إطار الزمان والمكان وغريبة عن الثقافة السائدة ولا تخدم سوى أعداء البلد والأمة ومحاولة فرضها قسرا على الشعوب حتى لو كانت نتائجها مدمرة يدفعنا بشدة للاعتقاد أن المسألة ليست مجرد غباء وسذاجة وقصر نظر وحب للسلطة.. المسألة على ما يبدو أبعد من ذلك.. إنها محاولة لزرع اليأس في نفوس الناس وقتل الطموح داخلها وإقناع شعوب المنطقة أنها عاجزة ومتخلفة بشكل بنيوي وأنها قاصرة عن بلوغ التقدم وتحقيق النهضة التي حققتها دول أخرى في الغرب والشرق، وأن التطور والرقي والابداع مجرد حلم بعيد جدا عن واقعها.. إنها محاولة لاستهلاك طاقات الشعب واستنزاف قدراته في معارك داخلية مستمرة.. حتى تبقى مستعمرة نفسيا وفكريا فضلا عن الاستعمار الموجود أصلا سياسيا وسياديا..
من حقنا أمام هذه الفوضى الغريبة في ممارسة السياسة والعته المتكرر في اتخاذ القرارات المصيرية أن نفكر بشكل مختلف – مع قليل من سوء الظن – ونمضي بعيدا في محاولة كشف الأسباب الخفية والاهداف بعيدة المدى وراءها.. من حقنا أن نتجاوز الخطوط الحمراء في التحليل والاستقراء وأن نحاول جمع الأجزاء المفككة في صوة واحدة.. من حقنا حينها أن نقولها وبكل صراحة.. إن هذه القرارات لا تخدم سوى أعداء الامة المهتمين دوما بالحفاظ على بلادنا ضعيفة مفككة متخلفة لا تستطيع العيش دون حمايتهم ووصايتهم.. أرض مباحة ينهبون ثرواتها ويستعبدون شعوبها.. ومن حقنا أن نستنتج عندها أن من يتحكمون في قرارها ومصيرها ومقدراتها ويتخذون مثل هذه القرارات المدمرة هم إما عملاء أذكياء يقومون بأدوار وظيفية تخدم مشغليهم، أو أشخاص أغبياء جدا يؤدون ذات الخدمة لأعدائهم مجانا بدافع من الجهل والانانية والسذاجة السياسية.. ولأننا لا نستخف بعقولهم وقدراتهم ربما نميل لأن نرجح الاحتمال الأول..
كم يؤسفني أن أفكر بهذه الطريقة.. وكم يؤلمني أن أصل لهذه النتيجة.. وكم أتمنى أن أكون على خطأ وأن يفاجئني أحدهم – ويفاجئ كل الطامحين بنهضة بلادهم – باختراق الحالة السياسية البائسة والنهضة الحقيقية ببلده وأمته كما فعلت العديد من الشخصيات المعاصرة في دول العالم الأخرى..
الجزائر اليوم منتفضة.. والمظاهرات تملأ شوارعها.. وأصحاب القرار الغبي قد فتحوا كوة كبيرة في مجتمعهم وبلدهم تسمح للقوى المتربصة في الجزائر بالتسلل من خلالها والعبث بأمنها – تماما كما فعل غيرهم في بلدان أخرى -.. قرار واحد غبي قد ينتهي بكارثة.. وما زال أصحابه حتى اللحظة مصرين عليه متمسكين به.. فهل يتداركون الأمر ويتراجعون عن قرارهم قبل فوات الأوان؟؟ أم أن الأمر ليس عندهم ؟؟؟
Comments 1