أيمن أبو هاشم
من خارج سياق الضوابط المتعارف عليها دولياً، في كيفية تعامل السلطات الرسمية مع أشكال الاحتجاج السلمي، تفرد النظام السوري باستخدامه العنف والقمع ضد المدنيين العزل، منذ بداية الثورة السورية. تدريجياً ومع اتساع نطاق الحراك الثوري، وشموله أغلب المناطق السورية، قامت قوات النظام والميليشيات التابعة له، بارتكاب طائفة واسعة من الانتهاكات الأشد خطورة وفق تصنيف القانون الدولي، تعاظم تأثيرها مع دخول حليفيه الإيراني والروسي حلبة الصراع، وارتكابهما ما يندرج أيضاً في عداد تلك الانتهاكات.
حال كل مذبحة ومجزرة واستهداف ذات طابع جماعي؛ بحق المدنيين السوريين، كانت ترتفع الأصوات التي تطالب بوقف تلك الجرائم المخالفة لشرعة حقوق الإنسان، ومبادئ القانون الدولي الإنساني، ولا تكف عن مطالبة المجتمع الدولي، بملاحقة ومحاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم المروّعة أمام القضاء الدولي. أكثر من ذلك، وبعد أن تحولت سورية إلى أكبر مقتلة جماعية في العصر الحديث، أصبحت فئات وشرائح متعددة من السوريين – وليس المختصون منهم فحسب في المجال القانوني – معنيون مباشرة بالبحث والتساؤل، عن كيفية ردع كبار المسؤولين والمتورطين بارتكاب الانتهاكات، والجرائم بحق ملايين المدنيين الأبرياء !؟ ومن هي الجهات الدولية القادرة على ملاحقتهم ومقاضاتهم جراء ما يقومون به !؟.
بقيت الإجابات على مثل تلك التساؤلات، عالقة عند حدود الاعتبارات السياسية، لاسيما أن الصراعات بين الدول المُتدخلة في القضية السورية، كشفت عن تأثير ودور المصالح والضغوط السياسية في تغييب صوت العدالة، ما شجع القتلة على التمادي في إجرامهم في ظل صمت العالم وتنكره لصرخات الضحايا. غير أن تطورات لافتة تتعلق بخطوات اتخذتها بعض الدول الأوروبية مؤخراً، وتمثلت في رفع دعاوى عن طريق السلطات القضائية في تلك الدول، بمواجهة رموز وشخصيات من النظام السوري، متورطة بارتكاب انتهاكات جسيمة خلال الصراع، ما أطلق الآمال بوجود مسارات قانونية يمكن اللجوء إليها، لمقاضاة المتسببين والمسؤولين عن الكثير من مآسي الشعب السوري.
أما الأساس القانوني لاختصاص بعض محاكم الدول الأوربية دون غيرها، في قبول طلبات التظلم والاشتكاء من قبل ضحايا تلك الانتهاكات، أو بالنيابةً عن الضحايا من ذويهم وأقربائهم، فيقوم على تبني بعض الدول مثل ( ألمانيا- إسبانيا- بلجيكا – فرنسا ) لمبدأ الاختصاص القضائي العالمي في قوانينها الوطنية، والذي بموجبه تستطيع تلك الدول ملاحقة ومقاضاة، كل من يثبت قيامه بارتكاب أفعال تندرج في نطاق ( جرائم حرب – جرائم ضد الإنسانية – جرائم إبادة الجنس البشري ) مهما كانت جنسية الفاعل، وفي أي مكان وقع الجرم، حتى لو خارج أراضي هذه الدول. كافة هذه الجرائم التي تثير الملاحقة والمحاسبة بحق مرتكبيها، تشمل كما هو مبين في المواد (5- 6- 7- 8 ) من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، الجرائم الأشد خطورة، حسب تصنيف النص الأحدث للجرائم الدولية وفق الاختصاص الموضوعي للمحكمة، إضافةً إلى كافة الانتهاكات التي تخالف اتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 / آب / 1949.
وفق ذاك التصنيف تُعتبر العديد من الجرائم المشهودة والموثقة في الحالة السورية، في عداد الجرائم الدولية التي تثير مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، بحق الأشخاص المسؤولين عن ارتكابها. ومنها على سبيل المثال لا الحصر ” القتل العمد – الإبادة – إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان – التعذيب – السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو من حجز الحرية البدنية – الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي – الاختفاء القسري للأشخاص – إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي، كلياً أو جزئياً، بما في ذلك قتل أفراد الجماعة، وإلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة – القصف العشوائي لمناطق المدنيين– استخدام الأسلحة الكيماوية والجرثومية والبيولوجية- استهداف المنشآت الصحية والتعليمية ودور العبادة – الخ..”.
توفر هذه الآلية المتاحة لدى الدول التي تتبنى الاختصاص القضائي العالمي، فرصة قائمة أمام السوريين ومنظماتهم الحقوقية الناشطة في هذه الدول، لمنع المجرمين والقتلة الإفلات من العقاب، أو على الأقل وضع من يعتقدون أنهم بمنأى عن المحاسبة، تحت التهديد الدائم بأن تصلهم يوماً يد العدالة أينما كانوا. ربما هناك من يشكك بمدى وحدود فاعلية تلك الآلية، بسبب عدم إمكانية إسقاط فرضية التسييس عن مساراتها القضائية، ولهذه الشكوك قدر من الأحقية، فما ذلنا نذكر كيف طوت محكمة الاستئناف البلجيكية ” chamber des mession en occusatin ” عام 2002، قضية مجرم الحرب أرئيل شارون، عن مسؤوليته في ارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا ضد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان عام 1982، بسبب الضغوط السياسية التي مارستها إسرائيل وأصدقائها على الحكومة البلجيكية. مع كل ذلك يجب الاستفادة من توفر إمكانيات المقاضاة التي توفرها هذه الآلية، وعدم التقليل من شأنها مهما كانت الصعوبات.
أما الآليات القضائية الأخرى وفي مقدمتها المحكمة الجنائية الدولية، التي تم المصادقة على ميثاقها، وأصبح نافذاً منذ عام 2002، فهي وفق طبيعة إنشائها كمحكمة دائمة، تختص بتطبيق العدالة الدولية على نطاق أوسع وأشمل من الآلية السابقة، وكان يجب أن تكون الآلية المثلى أمام ضحايا النزاع المسلح الداخلي في سورية ( كما تم توصيفه قانونياً من قبل لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا عام 2012 ) غير أن القيود السياسية التي فرضتها الدول الكبرى على هذه المحكمة، وقامت بتقنينيها في نظامها الأساسي، لازالت تحول دون تفعيل دور المحكمة حيال العديد من الحالات الدولية، ومنها الحالة السورية الأكثر دموية. إذ يمتلك مجلس الأمن وفق المادة ( 16 ) حق وقف التحقيق والملاحقة من قبل المحكمة، لمدة اثنى عشر شهراً قابلة للتجديد، بل أن نهوض المحكمة باختصاصها ( مادة 13- مادة 15 ) يتوقف إلى حد كبير على موافقة مجلس الأمن، حتى في حال فتح المدعي العام تحقيقاً من تلقاء نفسه، بالنسبة إلى دولة ليست طرفاً في النظام الأساسي للحكمة.
لا يشذ عن أثر الموانع السياسية في إغلاق أبواب المحكمة الجنائية الدولية، ما يسري على المطالبات الأخرى بتشكيل محاكم دولية مؤقتة “على غرار ما حدث في قضيتي يوغسلافية ورواندا ” أو محاكم خاصة “على غرار المحكمة الخاصة باغتيال الحريري”. فمن المعروف أن تشكيل هذه المحاكم يتوقف أيضاً على موافقة مجلس الأمن، وهذا غير ممكن في ظل التركيبة الحالية للمجلس، وإشهار روسيا لحق الفيتو في كل ما يتعلق بإدانة وتجريم النظام السوري.
أخيرًا: ثمة طريق طويل وشائك أمام إحقاق العدالة في سورية، طالما أن شريعة القوة والمصالح هي التي تحكم النظام الدولي الراهن، على حساب القانون وحقوق الضحايا. على أن تغيير هذه المعادلة المجحفة، هو ما ينبغي العمل عليه، من خلال تأطير قوى مدنية وحقوقية منظمة، لا تترك باباً لملاحقة ومقاضاة المجرمين إلا وتطرقه بكل قوة ومثابرة، ولا تترك منصةً لإسماع العالم صرخات الضحايا إلا وتعتلي منابرها..
المصدر: موقع مع العدالة
Comments 1