قتيبة الحاج علي
لم تكن الولادة الجديدة للحراك الشعبي في درعا صدفة، بل سبقتها إرهاصات عديدة على مدار الأشهر الماضية، لعل أبرزها ما كُتب من شعارات مناهضة للنظام على جدران المدارس والأبنية الحكومية، لكن الشرارة الحقيقية التي أشعلت تظاهرات الأحد، كانت “الحركة الاستفزازية” التي قام بها النظام من خلال إعادة نصب تمثال جديد لرئيس النظام السابق حافظ الأسد، بديلًا من ذلك الذي تعرض للحرق والتدمير في 25 آذار/مارس 2011، بينما تعاني أحياء المدينة المدمرة من أوضاع معيشية مزرية.
النظام، ممثلاً بفرع حزب البعث في درعا وعدد من أعضاء مجلس الشعب وتجار محليين، لم يكتفِ بنصب التمثال الجديد لحافظ الأسد، بل قام بإعادة تأهيل كامل ساحة “16 تشرين” المحاذية لمنزل محافظ درعا، ورفع صورة كبيرة لبشار الأسد، مماثلة تماماً لتلك التي تم تمزيقها في اليوم ذاته الذي دُمر فيه التمثال قبل ثمانية أعوام، وتولّت مديرية الكهرباء إنارة الساحة والتمثال، وتكفلّت مؤسسة المياه بتشغيل النوافير.
رجالات النظام ومؤسساته دفعوا الملايين من أجل “إعادة إعمار حافظ الأسد” من جديد، المؤسسات الخدمية جندت عشرات الموظفين والعمال من أجل تجهيز الساحة لـ “الاحتفال” بذكرى “ثورة حزب البعث” في الثامن من آذار، حيث قدّرت مصادر “المدن” سعر التمثال، المصنوع من البرونز، استناداً إلى حجمه ووزنه بأكثر من 20 مليون ليرة سورية (40 ألف دولار أميركي تقريباً)، دفع ثمنه عضوا مجلس الشعب، رياض الشتيوي وفاروق الحمادي، ولم تُعرف الجهة التي قامت بصناعته، بينما تكفّل أحد التجار بثمن الصورة الجديدة لبشار الأسد وتزيين الساحة بالورود، وقُدّرت تكفلتهما بمليون ليرة تقريباً.
ذكرى “ثورة حزب البعث” تزامنت مع يوم الجمعة، العطلة الرسمية في سوريا، ما دفع بالنظام لتأجيل الاحتفال إلى العاشر من الشهر ذاته من أجل حشد الموظفين وطلاب المدارس والجامعات للحضور وإظهار امتلاكه للقاعدة الشعبية، وأرسل من أجل ذلك العديد من مسؤوليه الحاليين والسابقين يتقدمهم المنحدرون من محافظة درعا، مثل رئيس الوزراء السابق وائل الحلقي، بالإضافة للمسؤولين “البعثيين” أمثال هلال الهلال، الأمين العام المساعد للحزب.
مشهد الاحتفال في ساحة “16 تشرين” الواقعة على بعد مئات الأمتار فقط من أحياء درعا البلد المدمرة، هناك حيث يتذرع النظام بالفقر عندما يُطلب منه إعادة إعمار ما دمره بنفسه، ربما هو ما ولّد الكثير من النقمة لدى المتظاهرين، ليرفع أحدهم لافتة كُتب عليها “وضعنا هون عال العال، بس كان ناقصنا تمثال”.
تمثال حافظ الأسد القديم، وقف في درعا رافعاً يده لعشرات السنين، قبل أن يقرر المتظاهرون في درعا إنزال هذه اليد والتمثال معها بعد أيام فقط على بدء الثورة السورية، ليختار النظام تمثاله الجديد هذه المرة جالساً على ما يشبه الصخرة حاملاً رزمة من القمح، إشارة للمحصول الزراعي الأبرز في محافظة درعا، ليختار الناشطون على منصات التواصل الاجتماعي وسم “رح يقع” في إشارة إلى “النية” بإسقاط التمثال الجديد أيضًا.
إعادة نصب تماثيل جديدة لحافظ الأسد بديلة عمّا تم إسقاطه خلال السنوات الماضية، لم يقتصر على درعا فقط، حيث سبق للنظام أن قام بخطوات مماثلة في مدن دير الزور وحمص وغيرها، وتردد حينها أن تكلفة إعادة تأهيل التمثال في مدينة حمص تجاوزت 50 مليون ليرة سورية.
المظاهرات الشعبية التي اندلعت في محافظة درعا، الأحد 10 آذار/مارس، حرّكت مياه النشاط السلمي الراكدة في سوريا منذ أشهر، وأعادت الأمل في قدرة المعارضة على الحياة مجدداً في المناطق التي استعادت ميليشيات النظام السيطرة عليها، وإن كانت أوساط المعارضة السياسية قد رحبت بهذا الحراك بالكثير من الإيجابية، واعتبرته تاريخاً جديداً في الثورة السورية، إلا أن التقييم الحقيقي له مرهون باستمراريته ونجاحه في “اللعب بأمان” ضمن المساحة التي خلفتها “اتفاقية التسوية” في جنوب سوريا.
المصدر: المدن