حيان جابر
يصعب رد أسباب الثورة السورية إلى تفاعل العوامل الداخلية السياسية والاقتصادية فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار تفاعل السوريين مع الأجواء الثورية العربية في ذلك الوقت، حيث تشبث جزء كبير من السوريين بأمل التغيير الشعبي، متأثرين بنتائج الثورتين التونسية والمصرية السريعة آنذاك، فقد أدى نجاح الشعبين التونسي والمصري في إسقاط شخص الرئيس، إلى تصاعد ثقة السوريين بذلك أيضا. لكن ونتيجة عوامل عديدة لم تتمكن الثورة السورية من إسقاط رأس النظام سريعا، الأمر الذي استغله البعض من أجل ترويج أوهام استدعاء الخارج والتعويل عليه، أي حتمية التغيير الخارجي، مسارعين إلى إعلان عجز القوى الشعبية عن تحقيق التغيير المنشود، بدلاً من العمل على تطوير النضال الشعبي وتنظيمه، أو تحليل وتفكيك بنية النظام الأمنية والاقتصادية والعمل على مهاجمته من نقاط ضعفه.
وهو ما انعكس سلبيا على الثورة وعلى السوريين، مما عزز عفوية الثورة وأعطاها طابعا من العنفوان والعزة والتحدي الخارج عن المنطق والمعقول، حتى طغت المظاهر الصدامية، مثل دعوات كسر أو إتلاف الهوية الشخصية، والإصرار على مظاهرات شبه انتحارية داخل مراكز سيطرة النظام، وأحيانا داخل بعض مناطق تجمع الشبيحة، والعديد من أشكال التحدي والمواجهة المباشرة الفردية مع النظام الأمني والإجرامي. الأمر الذي سهل مهمة الأجهزة الأمنية وساعدها على اعتقال ومحاصرة الكثير من الناشطين، ومداهمة اللقاءات والنشاطات الثورية. وتحول الوقت إلى سيف مسلط على رقبة الثورة، بدلا من النظام، فمع انتهاء كل يوم ثوري؛ خصوصا أيام الجُمع؛ كنا نشهد احتفال إعلام النظام بفشل الثورة وبقاء النظام، في مقابل تصاعد احتقان وغضب الجموع الثائرة التي كانت تعتقد أن إسقاط النظام وتغييره عملية سريعة لا تتطلب كل هذا الوقت، وهو ما جعلها تحت الضغط بدلا من النظام العاجز عن احتواء الغضب الشعبي، فانعكست المفاهيم والوقائع وسلطت جميعها على الشعب السوري الثائر.
نتيجة لذلك شهدنا نقلة سريعة في وعي السوريين من إيمانهم المطلق بقدراتهم الذاتية وإمكانيات التغيير، إلى حتمية التغيير الخارجي كخيار وحيد لا بديل عنه في ظل هذا النظام الاستبدادي والدموي، عبر تركيا أو بعض الدول الخليجية أو الولايات المتحدة الأمريكية، وعبر روسيا وفقا لبعضهم. وقد أثار اعتبار روسيا كقوة قادرة على إصلاح النظام الحاكم وربما تغييره، غضب الجزء الأكبر من السوريين، وقوبلت هذه الخزعبلات بموجات عديدة من السخرية. إلا أن تتابع الأحداث السورية قد أثبت مدى سخرية وسذاجة الرهان الخارجي أيا كان مصدره، وضرورة الغضب من المروجين له، على ضوء نتائج هذه الدعوات الخبيثة، المتمثلة في توسع رقعة المجزرة وتزايد أعداد القتلى، واحتلال ونهب سورية من قبل عديد القوى الخارجية؛ وأبرزها روسيا؛ إيران؛ تركيا؛ إسرائيل؛ وأمريكا؛ والتي تترافق مع بقاء نظام الأسد حتى الآن. لذا ونتيجة اختلاف الواقع السوري في ظل التدخلات الخارجية عن جميع التصورات والأحلام الشعبية التي كانت في بدايات الحركة الثورية، كان لابد من سقوط أوهام التعويل على الخارج.
فقد أضحت الصراعات والعلاقات الدولية لعبة مكشوفة لجميع شرائح وطبقات المجتمع السوري، وبات من الجلي أنها تسير في مسار مغاير لمسار تحقيق أهداف الشعب السوري، بل هي أحد أهم أسباب تدهور الوضع السوري واستمرار الأسد وإجرامه حتى اللحظة، وبالتالي سقط الرهان على الخارج – أو تراجع بالحد الأدنى- أيا كان دون رجعة. كما تسارع الانهيار السوري اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، مما ولد احتقانا وغضبا شعبيا عارما جراء انهيار النظام وفقدان الثقة فيه وفي قدرته على تحسين الأوضاع ولو بحدها الأدنى، وكأننا نعود إلى بدايات الثورة بصورة أكثر مأساوية، مع اختلاف نوعي وحيد يتمثل في اكتساب الشعب السوري وعيا وخبرة ثورية لم يكن يمتلكها في 2011.
إذ أدرك السوريون حقيقة وصعوبة التغيير الثوري في كل مكان، فها هي مصر التي تمكنت الثورة فيها من إسقاط مبارك بأقل من ثلاثة أسابيع، تعاني من استمرار ذات النظام الفاسد، وتعاني في سبيل استكمال المهام الثورية التي لم تنجز على طول السنوات الماضية. كما توضح التجربة التونسية الأكثر إشراقا على المستوى العربي، أن الثورة نضال طويل ومستمر، وأن التغيير الحقيقي والكامل لم ينجز بعد، وأن مخاطر النكوص والعودة إلى سيطرة القوى القديمة الخفية منها والعلنية مازال قائما. وبالتالي لم تنجح أي من الثورات العربية في تحقيق أهدافها حتى الآن وإن تفاوتت انجازاتها، وفداحة أثمانها، لذا وفي ضوء موجات احتجاجية وثورية عربية جديدة نلمس بوضوح إدراك الشعب العربي عموما حتمية الثورة وصعوبتها وضرورة استمراريتها، فلن تتحقق أهداف أي من الشعوب العربية في غضون أيام قليلة، بل على العكس هي معركة كبيرة وطويلة تبدأ من تفكيك النظام الأمني والاستبدادي، وإسقاط المافيا الحاكمة التي تسلب الوطن ثرواته وإمكانياته، وتنتهي من خلال بناء نظام بديل اقتصادي واجتماعي وسياسي، يستند إلى العدالة والحرية والمساواة بين الجميع دون أي شكل من أشكال التمييز.
وبالتالي فإن الظروف المأساوية التي يعيشها السوريون اليوم سوف تدفعهم إلى الثورة بصورة أكثر جذرية مما كان سائدا في 2011، وقد باتوا يمتلكون وعيا ثوريا قادراً على دحض غالبية الأكاذيب والتضليلات التي يروجها البعض، وخصوصا قوى المعارضة التقليدية وبعض الوسائل الإعلامية التابعة لها، استنادا إلى تجاربهم الذاتية وتجارب مجمل الشعوب الثائرة، كما بات من الوضح أن مجمل الشعوب العربية تعيش ذات المأساة سواء من شهد منها ثورات في 2011 أو تلك التي تحملت أكثر وصبرت حتى الآن، فها هي الشعوب في كل من الجزائر والسودان والأردن والمغرب، ونسبيا في لبنان والعراق تثور وتحتج وتغضب وتعبر عن حتمية التغيير الآن غير عابئة بحملات الترهيب التي تهددهم بذات المصير السوري. لكن وعلى الرغم من تصاعد موجات الاحتقان الشعبي داخل وخارج سوريا، حتى في أوساط النظام الاجتماعية، إلا أن طريق التغيير يتطلب التغلب على معضلتي التشتت والانقسام الاجتماعي؛ وغياب التنظيم النضالي والسياسي، كي ينعم السوريون بانتصار ثوري مدو يليق بثورتهم وينجح في تحقيق أهدافهم وآمالهم.