حسن النيفي
أتاحت الثورة السورية – لمن أراد التزوّد من كشوفاتها المعرفية – آفاقاً واسعة للتفكير بعمق، وبعيداً عن لوثات ما ترسّب في الفكر الماضوي من ردميات، وبات متاحاً – أيضاً – لمن أراد، الخروجَ من أنفاق التفكير المكتظة برائحة العفونة، إلى الهواء النظيف الطلق الخالي من عوالق الإيديولوجيا الكابحة لأي إبداع خلّاق.
لكن يبدو أن التحرّر الفكري من قيود البنى الذهنية والاجتماعية والنفسية التي تأسره، ليس مرهوناً فقط بتوفر الشروط التاريخية والموضوعية، بل هو قرين الإرادة الذاتية النازعة نحو استيعاب التاريخ، لا للمكوث بين طياته، بل لتتحرّر هي ذاتها، على حدّ قول الدكتور عبد الله العروي.
وحين نشير إلى مصطلح (الماضوية)، قد يظن البعض أن المعني به هم أصحاب القناعات أو الإيديولوجيات الدينية أو القومية فحسب، بينما المقصود به في هذا السياق، جميع أنماط التفكير التي تشكلت في برهة زمنية ما، ثم راحت تتحدّى التحولات التاريخية وولادات المستقبل، وهي بهذا الصنيع، تكون قد أطلقت الحكم بالموت على كل ما هو مستجد، وكأن تطور البشرية سيبقى حبيسَ إرهاصاتها الأولى أو السالفة.
ثورات الربيع العربي عموماً، والثورة السورية على وجه الخصوص، حسرتْ النقاب عن عطب المشاريع الإيديولوجية التقليدية في قدرتها على مواجهة التحديات المجتمعية الراهنة
ثورات الربيع العربي عموماً، والثورة السورية على وجه الخصوص، حسرتْ النقاب عن عطب المشاريع الإيديولوجية التقليدية في قدرتها على مواجهة التحديات المجتمعية الراهنة، ولعلّ في طليعتها مشروع الإسلام السياسي الذي لقي حتفه على يدي تنظيم القاعدة وجميع مشتقاته في سوريا. ولئن جسّد إخفاق القوى الإسلامية نقطة افتضاح كامل للخطاب الإسلامي الجهادي، إلّا أن هذا الإخفاق تحوّل – عند معظم خصومهم (اليساريين)، إلى علامات نصرٍ يرفعونها، إيذاناً بالمصداقية التاريخية لمشروعهم (التقدمي)، إذ أن فشل أحد الطرفين المتخاصمين، هو ضمانة بنجاح الآخر، وفقاً لتصورات بعض القوى التي تدعي اليسارية، وذلك دون النظر إلى بواعث هذا الإخفاق ومسبباته، بينما واقع الحال يؤكد، أن الإخفاق الذي تواجهه بعض القوى اليسارية لا يقلّ فداحة، من حيث الوقائع والتداعيات، عن إخفاق خصومهم الإسلاميين.
لقد كانت (داعش وأخواتها) التجلّي الأكثر سوءاَ وانحطاطاً للحركات الجهادية الإسلامية، سواءٌ من حيث منهجها الفكري القائم على القهر والإلغاء، أو من حيث سلوكها المجافي لمنظومة القيم الإنسانية، وقد ساهمت، هي ونظيراتها، أيّما إسهام في الغدر بثورة السوريين، واستنزاف قوى الثورة، كما أثبتت بما لا يقبل الشك، أن الخطاب الجهادي الإسلامي، الفكري والسياسي بآن معاً، هو العقبة الرئيسة التي تحول دون إنضاج مفهوم (الوطنية السورية) الذي أحوج ما يكون إليه السوريون.
ولئن لم تمتلك بعض قوى اليسار السوري ما تمتلكه القوى الجهادية الإسلامية من مقوّمات مادية، أعني السلاح والمال والكوادر البشرية والقدرات التنظيمية إلخ، فإنها – بلا أدنى ريب – تمتلك الكثير مما يحوزه الجهاديون، كزخم الإيديولوجيا، ونزعة الإلغاء، وشيطنة الآخر، والتفكير الأقلّوي المتشنج …إلخ، الأمر الذي يجعلنا أمام طرفين يدّعيان الخصومة، و يختلفان في الشعارات، وربما الأدوات، إلّا أنهما يتفقان من حيث منهج التفكير، وآليات التعاطي مع الواقع، فحين يحيل تيار سياسي سوري(يساري) كل موبقات داعش إلى وجود (أكثرية عربية سنية) لا ترى في داعش والنصرة، سوى رأس حربة لمواجهة السلطة وحلفائها الإقليميين والدوليين، فعندئذٍ لا تضمر هذه الإحالة سوى أمرين جوهريين:
اتهام جهة تُدعى (الأكثرية العربية السنية) هو ادعاء لا يتقوّم على حوامل فكرية أو سياسية
الأول: إن اتهام جهة تُدعى (الأكثرية العربية السنية) هو ادعاء لا يتقوّم على حوامل فكرية أو سياسية، وكذلك لم ينبثق من هاجس معرفي، بقدر ما ينهض على كوامن طائفية لم تستطع الشعارات الأممية أن تحول دون ظهورها، ولعل هذا ليس غريباً أو مفاجئاً، إذ أن الكثير من أصحاب المشاريع الإيديولوجية والثقافية والشعارات العابرة للقوميات، سرعان ما تظهر ارتكاساتهم بالعودة إلى حواضنهم البدائية لدى أيّ مقاربة للواقع الاجتماعي المعاش.
الثاني: القول بانحياز الأكثرية السنية إلى داعش، يعني بداهةً أن أكثرية سكان سوريا هم متطرفون، أو في أحسن حالاتهم يشكلّون حاضنة ملائمة للإرهاب، ما يقودنا إلى نتيجة فحواها، أن الأكثرية العربية السنية تجسّد الجانب الظلامي من الوعي السوري، بينما تجسّد المكوّنات العرقية والدينية الأخرى الجانب التقدمي الناصع من الوعي الثوري، وهنا تشكل مقولة (الفرقة الناجية) نقطة تقاطع هامة بين الطرفين المتخاصمين.
ليس غريباً على بعض (أبطال اليسار السوري) استسهال هكذا تعميمات، أو طرح هكذا أفكار، طالما أنها تصدر عن كوامن راسخة في طبقات الإرث الإيديولوجي والطائفي معاً، ولم تصدر عن مقاربة معرفية جدية لسيرورة الحرب في سورية، ولو أنها فعلت ذلك، لأدركت أن ( داعش وأخواتها في سورية) قد استهدفت ( الأكثرية العربية السنية) أكثر بأضعاف المرات، من استهدافها لغيرهم، بل إن قطْع الرؤوس وتعليقها في الساحات العامة، وتقطيع الأوصال، والذبح بالسكاكين والسيوف، وحالات الإخفاء والاعتقالات بالجملة، لم تكن تحدث إلّا في الرقة ومنبج والباب وجرابلس ودير الزور وسائر مدن وبلدات المنطقة الشرقية.
لم تقترب جبهة النصرة من كفريا والفوعة مع أنها كانت تحاصرهما لما يزيد عن سنتين، ولم تهاجم داعش مدن وبلدات الساحل السوري، بل خلّفت المئات من المقابر الجماعية في مدن وبلدات حواضن داعش كما يسمّونها، مع استنكارنا وإدانتنا الشديدة لأي اعتداء على أيّ مواطن سوري مهما كان عرقه أو دينه أو مذهبه.
فشل الخطاب اليساري التقليدي، وانعدام المُنجَز العلماني لدى بعض قوى اليسار، لن يعوّضه التلطّي خلف انتصارات مزعومة، لطرفٍ، لم يكن – من حيث المغامرة الإيديولوجية والعبور لمفهوم الوطنية – البديل المناقض لداعش، بل إن أقل ما يقال عنه، بل ما يقوله هو عن نفسه، إن أفضل خياراته هو التحالف مع نظام الأسد، ولئن حُقَّ لهذا الطرف أن يتباهى بمُنجَز عسكري حققه بفضل تماهي أجنداته الخاصة مع بعض التوجهات السياسية لواشنطن في المرحلة الراهنة، فما هو مصدر الفخر بالنسبة إليكم، كتيار سياسي سوري يتحدث عن مشروع وطني لكل أبناء سورية؟ هل اتهام الأكثرية العربية السنية بالدعشنة هو وفاء قيمي أمين لمفهوم العلمانية، إنْ كان الأمر كذلك، فهذا يتناقض، بل ينسف الفحوى الإنساني للعلمانية الذي يتخذ من الديمقراطية والحرية وكرامة الكائن البشري ركائزه الجوهرية، بعيداً عن العرق أو الدين أو المذهب.
لا أعتقد أن الموقف الذي تضمنته افتتاحية تيار مواطنة بتاريخ الخامس عشر من آذار الماضي يحمل تجلّياً جديداً لمسار بعض الحركات أو التيارات التي برعت في التغنّي بشعارات العلمانية، ولكن حين أرادت ترجمة علمانيتها، لم تُفصح سوى عن كوامن الأيديولوجيا المزكومة بالطائفية، لقد حدث ذلك في العراق بعد 2003 ، حين هبطت الشعارات الأممية ولم تجد ملاذاً لها سوى بالمرجعيات المذهبية والعشائرية، وما يحصل في سورية ليس ببعيد عما حصل في العراق، حين يتحوّل ( الإرهابي) إلى ( مُنقِذ )، ليس بسبب تحوّلٍ طرأ على أفكاره وسلوكه، ولكن فقط، بسبب مغايرته العرقية أو الدينية.
التحذير من الأكثرية العربية السنية – باعتبارها الخزان الإيديولوجي لداعش والنصرة – وفقاً لافتتاحية مواطنة، حتى لو بُني على فرضية صحيحة، فمقاومتها ينبغي أن تنبثق من موقع ومفهوم الوطنية السورية، أما الردّ عليها من موقع الثأرية الطائفية والإيديولوجية، فما ذلك سوى مزيد من الدعشنة المضادة.
المصدر: تلفزيون سوريا