وليد بركسية
للوهلة الأولى يبدو عنوان “العدالة المنتظرة” الذي يحمله فيلم وثائقي جديد قدمه “المركز السوري لتوثيق الانتهاكات الكيماوية في سوريا”، تعبيراً آخر عن الإحباط السوري، مع تكرار استخدام نظام الأسد لاستعمال الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، خلال السنوات الماضية، وفشل الجهود الحقوقية والسياسية لتحقيق العدالة للضحايا. لكن الفيلم في الواقع يعطي أملاً بإمكانية تحقيق تلك العدالة المنشودة، عبر إبقاء القضية حية ومتداولة.
والفيلم هو الجزء الثاني في السلسلة، وفيما تناول الجزء الأول الذي قدم العام الماضي، قضية مجزرة الكيماوي في مدينة خان شيخون العام 2017، يركز الجزء الجديد الذي عرضته قنوات عربية وسورية، الأحد، باللغتين العربية والانجليزية، على مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام السوري في مدينة دوما بريف دمشق، ومحاولات إخماد الحقائق بشأنها، بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لها.
يهدف الفيلم إلى تحقيق العدالة عبر الصورة، مع لقاءات حصرية تثبت أن الضربة الكيميائية حدثت بالفعل في دوما بموازاة تضليل النظام وروسيا للحقائق عبر شهادات الزور وقصف المكان لمحو آثار الكيماوي هناك، وأيضاً لإثبات أن الأسلحة الكيميائية مازالت تستخدم في سوريا مع شجب واستهجان المجتمع الدولي، بحسب مسؤول العلاقات الخارجية في “مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا”، نضال شيخاني.
وقال شيخاني في حديث لـ”المدن”: “بعد اشتراك مركز التوثيق مع بعثات منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في التحقيقات باستخدام السلاح الكيميائي لمدة ست سنوات، كان لا بد من نقل هذه المعاناة بطريقة مختلفة عن التقارير الى الرأي العام”، مضيفاً أن الفيلم، بعيداً عن التحليلات وأصحاب الرأي، ينحاز للقص و ينتمي لمن فعلاً عاشوا اللحظات المؤلمة في المجازر الكيميائية، “فلن تكون هناك أي قاعدة للفيلم من دون حقيقة قصص الضحايا، كي تكون تلك أول خطوة لتحقيق العدالة أولاً أمام الرأي العام وثانياً أمام المجتمع الدولي وأخيراً أمام المحاكم المختصة بالجرائم الدولية لمحاسبة المتورطين”.
من جهتها، أفادت مخرجة الفيلم الفسطينية ريتا إسحاق، أن الفيلم يظهر “مشاهد حية لضحايا نجوا من الضربة الكيميائية بأعجوبة، ولقطات أرشيفية تم التقاطها من مكان الحدث وبعض الصور الحصرية للضربة الكيميائية في المدينة”، لإظهار الحقيقة، علماً أن جميع المتحدثين في الفيلم من الداخل السوري “رغم صعوبة الوصول للضحايا وقلة الإمكانيات”، مشيرة لعائلة شهاب التي تحدثت عن معاناتها خلال الضربة الكيميائية وكيفية الهروب منها، بالإضافة للطفل ابراهيم الذي عاش مأساة الكيماوي وكيف خرج من دوما مع عدد آخر من الشهود.
والحال أن تقديم الفيلم بهذه الصورة، يحيل الحديث تلقائياً نحو أزمة توثيق جرائم الحرب في سوريا، ومن بينها الجرائم الكيماوية، حيث عمد النظام وحلفاؤه لملاحقة واستهداف الإعلاميين بشكل ممنهج، بحسب التقارير الدولية ذات الصلة، ليقول النظام بعد ذلك أن التقارير من الناشطين الإعلاميين الموجودين خارج سوريا فاقدة للمصداقية، لعدم دراستها الواقع على الأرض. وفي المقابل، يتم التضييق على الجهات الدولية ومنعها من إجراء تحقيقات مستقلة لإيضاح واقع بديل، وهو ما حصل بالتحديد في دوما، التي يركز عليها الفيلم.
هذا العامل بالتحديد هو ما يجعل الفيلم يقوم على نمط يعطي مساحة واسعة للضحايا للحديث عن أنفسهم، بدلاً من التوجه لشخصيات رسمية أو تقارير جامدة أو شهادات الناشطين الإعلاميين، مع الابتعاد أيضاً عن أسلوب الديكودراما الشائع عند ملامسة مواضيع من هذا النوع، مقابل العرض الفعلي لصور ولقطات مؤلمة وثقت المجزرة عند حصولها وصدمت العالم قبل أن تنسى ربما في زحمة الأخبار اليومية. وقالت إسحاق: “إننا في موقع المسؤول لوضع الحقيقة أمام الجميع وليكون أملنا في العدالة هو أمل سوريا جديدة بعيداً عن الحرب والظلم”.
ويجب القول أن الفيلم بهذه الصيغة القائمة على إثبات حدوث الواقعة يعطي انطباعاً بأن الحقيقة باتت غائبة فعلاً مع مقولة “انتصار النظام في الحرب”، أو يمكن قراءته من جانب أن غياب العدالة والمحاسبة الجنائية لرموز النظام هو ما يجعل الحديث عن هذه القضايا يأخذ شكل إحياء المواضيع والتذكير بحصولها أساساً، خصوصاً أن بروباغندا النظام وخطابه الدبلوماسي يعملان على تكذيب حصول مجازر كيماوية في البلاد أو رمي التهمة على المعارضة، رغم أن لجان تحقيق مستقلة أو تابعة للأمم المتحدة ووسائل إعلام مثل “نيويورك تايمز”، أثبتت مرات عديدة وبطرق مختلفة، استخدام النظام للأسلحة الكيماوية في سوريا.
والحال أن روسيا كانت حاسمة في نفيها لاستعمال السلاح الكيماوي في دوما، لكن الكولونيل الروسي ألكسندر زورين، زار مسرح الجريمة بعد ثلاثة أيام على وقوعها، بمعزل عن أي جهة دولية محايدة متخصصة في التفتيش عن الأسلحة الكيماوية. وتم منع منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” من دخول المدينة بحجة “الظروف الأمنية”، ويقول ناشطون معارضون أن ذلك كان بغرض تشويه الأدلة.
وقال شيخاني هنا أن ما قامت به روسيا والنظام في نفيها للمجزرة كان الاعتماد على شهادات زائفة، قدمها أشخاص من دوما تم الضغط عليهم واستخدامهم لشهادة الزور، العام الماضي. مشيراً إلى أن المركز يعمل دائماً على نشر وإيصال معاناة ضحايا الكيميائي بطرق مختلفة لمن عاشوا اللحظات المؤلمة في المجازر الكيميائية فعلاً، من خلال مشاريعه ومتطوعيه، بشكل مستقل وعبر عمل ممنهج ودقيق.
يذكر أن الفيلم هو “عمل متواز لنشاطات حقوقية لمركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا، الشريك في التحقيقات مع الفرق الدولية التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وذلك لتنصيب وتحقيق العدالة وإدانة الجاني، وبالتالي فإن صناعة المادة المرئية هي ضرورة ماسة لنشر حقيقة معاناة الشعب السوري من الضربات الكيميائية واستمرارها وتزامناً مع الذكرى السنوية لمجزرة دوما وتوثيق وتسجيل للجريمة تاريخياً”، بحسب شيخاني، علماً أن المركز منظمة غير ربحية ومقره في العاصمة البلجيكية بروكسل، وتأسس العام 2012، وسمّي كنقابة غير ربحية بموجب القانون البلجيكي العام 2015.
وبحسب إحصائيات المركز، استخدمت الأسلحة الكيميائية 261 مرة في سوريا، وتسببت في مقتل 3423 شخصاً وإصابة 13943 آخرين معظمهم من النساء والأطفال، خلال ست سنوات، كما شارك في التحقيق بشأن قضية الأسلحة الكيماوي في البلاد 12 فريقاً دولياً متخصصاً. وأشرف على العديد من الحملات الحقوقية والإعلامية تحت شعار “محاسبة النظام السوري على جرائمه واجب أخلاقي”.
ومع غياب العدالة والرادع الذي يمنع النظام من تكرار استخدام الأسلحة الكيماوية في البلاد مستقبلاً، يقول شيخاني أن المركز بطبيعة الحال ملتزم بإظهار الحقائق عامة، مادام استخدام السلاح الكيميائي في سوريا مستمراً، ولذلك “كانت فكرة الأفلام الوثائقية واحدة من أهم النشاطات السنوية للمركز، ومازال بالإمكان العمل على إنتاج أجزاء أخرى تظهر وحشية استخدامه وآثاره على الناجين وما تركه من ألم لمن فقدوا أعزاء لهم في تلك المجازر”.
من جهتها، قالت إسحاق هنا: “من وجهة نظري كمخرجة فلسطينية عاشت ألم العدو ومأساة الحرب ضد إسرائيل، أرى أن توثيق جرائم الحرب يساهم بشكل فعال في أخذ الحق وتسطير التاريخ كي لا ينسى أنه في يوم ما كانت هنالك مجزرة راح ضحيتها الكثيرون بصمت. الأمم المتحدة لم تأخذ حقوقهم وتبقى الصورة بالتالي علقماً في حلق المجتمع الدولي وتبقى الشهادات حاضرة لتتحقق في يوم ما العدالة المنتظرة كما نرجوها لقضية الحرب الكيميائية والقضية الفلسطينية وأيضاً لمأساة الحرب السورية التي دامت اكثر من ثماني سنوات”.
المصدر: المدن