أحمد حمزة
نهار الإثنين 18 مارس/ آذار الماضي، حَطّتْ طائرةٌ مدنية تحمل شارة “السورية للطيران” في مطار دير الزور، شرقي هذا البلد. وبينما كانت مُحاطة بحراسةٍ مُشددة، تَرَجّلَ منها رئيس هيئة أركان الجيش الإيراني محمد باقري الذي وصل من دمشق، ثم جال في أرجاء مدينة دير الزور وريفها الجنوبي، حيث تنتشر قواتٌ إيرانية ومليشياتٌ محلية تابعة لها بشكل مباشر، إدارياً وتمويلياً. حرص المسؤول العسكري الإيراني، على الاطلاع على شؤون السكان المحليين، إذ جالَ موكبه في أسواقٍ شعبية وأحياءٍ فقيرة، أثناء زيارته التي امتدت إلى مدينة الميادين، وقرية الصالحية، وصولاً إلى أطراف مدينة البوكمال الحدودية مع العراق، مُتفقداً مواقع عسكرية لبلاده، قبل أن يُلقي خطاباً في مسجدٍ هناك باللغة الفارسية، حَضَّ فيه مُستمعيه الإيرانيين على المضيّ في طريق “الجهاد”، معتبراً أن “أعداء إيران ومحور المقاومة حاولوا كثيراً خلق الفوضى والنزاعات داخل الدول، وفي المقاومة التي تقف بوجه الكيان الصهيوني ليضعفوها، لكنهم لم ولن ينجحوا”.
باقري الذي كان حضر اجتماعاً في اليوم السابق مع نظيره العراقي عثمان الغانمي، ورئيس النظام السوري بشار الأسد، ووزير دفاعه علي أيوب في العاصمة السورية دمشق، لم يَخترْ عبثاً أن يسافر نحو 460 كيلومتراً من دمشق إلى دير الزور، إذ إن بلاده تُسيطر رسمياً على أرياف واسعة من المحافظة على ضفة الفرات الغربية، وتنشط في مجالاتٍ عديدة هناك، ولأهدافٍ عدة، وبأساليب متنوعة، وهو نشاطٌ ليس حديثاً، لكنه تصاعد وتغيرت آلياته عقب عام 2011 وما بعده.
سيطرةٌ عسكرية وحواضن اجتماعية
صحيحٌ أن سيطرة المليشيات الإيرانية في أرياف دير الزور الجنوبية، على الطريق الممتدة من مركز المحافظة، مروراً بالميادين والقورية والصالحية، وصولاً إلى مدينة البوكمال، هي ذات طابع عسكري، لكن من الواضح أن لإيران مساعي تتعدى تسليح الشباب (السوريين) هناك، وتجييشهم، إلى محاولات كسب ودّ السكان من الطائفة السنّية واستمالتهم، أو على الأقل تذويب ما أمكن من الحواجز النفسية بين الإيرانيين والسوريين. يتضح ذلك جلياً من نشاط جمعية “جهاد البناء” وغيرها. وسارعت الأخيرة في أكتوبر/تشرين الأول 2017، وبعد أقل من شهر على طرد تنظيم “داعش” من مدينة الميادين، إلى تأسيس مخبزٍ في منطقة الشراديق وسط الميادين، يوزع الخبز على السكان مجاناً، في وقتٍ كانت فيه مشاهد الدمار تملأ طرقات وأحياء الميادين، التي كانت تفتقد للخدمات حينها بُعيدَ وضع المعارك أوزارها.
يقول الصحافي السوري عبد القادر ضويحي، إن “الجمعيات الإيرانية تنشط في مجالات الإغاثة وسواها في أرياف دير الزور الجنوبية، وافتتاح الفرن الإيراني جاء في وقتٍ لا توجد فيه خدماتٌ لما تبقى من السكان، فقدّم الإيرانيون أنفسهم كمُعينين للسكان الفقراء المنكوبين، فيما انتبه النظام لاحقاً للموضوع، وافتتح بعد ذلك الفرن الآلي لحل مشكلة تأمين الخبز”. ويضيف ضويحي المنحدر من مدينة الميادين، أن “إيران لا تريد معاداة المجتمع السُنّي في دير الزور، وفي الوقت نفسه تُقدّم امتيازاتٍ لمن ينضم من الشباب السوريين إلى مليشياتها، أهمها الرواتب الشهرية، في وقتٍ تضيق فيه فرص العمل؛ إضافة إلى أن المليشيات الإيرانية تقدّم الحماية من مخابرات النظام للشباب الذين ينضمون لها، وكانوا سابقاً نشطين في الثورة ضد بشار الأسد. بل تُشجّع بقوة كل من كان في صفوف أي فصيل يقاتل النظام، للانضمام إليها، وتكفل له الحماية من الملاحقة”.
وفي حين تؤكد مصادر متعددة من دير الزور لـ”العربي الجديد”، أن الإيرانيين يحاولون أن يديروا المليشيات المحلية التي أسسوها، وكذلك التقرّب من المجتمع، بطريقة غير مباشرة، أي على مبدأ القيادة من الخلف، وترك الواجهة للعناصر السوريين المقربين من طهران، فإن ذلك لا يعني عدم حضور العناصر و”المستشارين الإيرانيين”، بشكل مباشر كلما اقتضت الحاجة، وبين فينة وأخرى. ومثالاً على ذلك، فإن اليوم الرابع من شهر فبراير/ شباط الماضي، شهد اجتماعاً في مقر “حزب البعث العربي الاشتراكي” القديم قرب حارة الشراديق في الميادين، ترأسه شخصان إيرانيان لا يتحدثان العربية، نقله مُترجمٌ للحضور، وهم مخاتير ووجهاء مدينة الميادين. ونقل لـ”العربي الجديد” الصحافي عبد القادر ضويحي، عن أحد الحضور السوريين في الاجتماع، قوله إن “لغة الخطاب من الإيرانيين للحضور السوريين كانت واضحة مباشرة غير مُبطّنة: نحن الإيرانيين الشيعة أعدنا لكم الأمن والأمان، أما المتطرفون السنّة (داعش والنصرة) فجلبوا لكم المصائب والمعاناة، وعليكم يا مخاتير ووجهاء الميادين، أن تبلغوا شبابكم الذين غادروا المنطقة كي يعودوا وينضموا إلينا”.
وبحسب رواياتٍ متعددة استقتها “العربي الجديد” من سكانٍ محليين، فإن جهود “المستشارين الإيرانيين” في ريف دير الزور الجنوبي، تتركز منذ فترة على استقطاب شباب المنطقة، الذين انضموا لمختلف الفصائل ضد النظام السوري، عبر توفير الأمان والرواتب لهم، في حال انضمامهم إلى المليشيات التابعة للحرس الثوري، وأن العائدين يخضعون أسبوعياً لـ”درسٍ ديني” مدته نحو ساعة، وقد يُخصم جزء بسيط من الراتب البالغ نحو 200 دولار أميركي، في حال تكرر غياب الشخص عن مثل هذه الاجتماعات.
ولا يفوّت المركز الثقافي الإيراني في دير الزور أي مناسبةٍ محلية، ليشارك في تنظيم احتفالاتٍ فيها، فقد أقيم أواخر مارس/ آذار الماضي حفلٌ وصل لـ”العربي الجديد” مشهد مصورٌ منه، بمناسبة “أعياد المعلم والأم” في سورية؛ وقد وضعت في صدر القاعة التي شهدت الاحتفال، صورةٌ كبيرة لقائد الثورة الإسلامية في إيران روح الله الخميني، والعلم الإيراني، وبرعاية “جمعية الصداقة والسلام الثقافية”، و”المركز الثقافي الإيراني”.
تحركات قديمة وآليات جديدة
يقول مؤلف كتاب “البعث الشيعي في سورية” عبد الرحمن الحاج، إن النشاطات الإيرانية (التبشيرية منها وسواها) في سورية عموماً قديمة؛ وتصاعدت منتصف التسعينيات تقريباً (بعد أشهر من وفاة باسل الأسد)، لكن “في سنة 1994 شهدت طفرة لجهة منح تراخيص إنشاء الحوزات. وهذه النشاطات الإيرانية، التي ازدادت مع بروز حاجة حافظ الأسد لإيران، كانت مضبوطة ضمن الرقابة الأمنية، إذ كان يتم تطويقها والتضييق عليها، كلما وجد النظام أنها تجاوزت حدودها، وباتت تشكل تحدّياً استفزازياً للمجتمع السُنّي”، مضيفاً في حديث لـ”العربي الجديد” أن “عهد بشار الأسد بعد سنة 2000 شَهِدَ طفرةً أكبر، وبرز نشاط الملحقية الثقافية الإيرانية بوضوح، وبدأت الشعائر الشيعية تظهر في الشوارع علناً؛ وهذا تزامن مع زيادة حاجة بشار الأسد لإيران، بعد الغزو الأميركي للعراق ثم اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري، وما تبعه من ضغوطٍ على سورية”.
ويشير الحاج الذي يُعدّ جزءاً ثانياً من كتابه “البعث الشيعي في سورية”، ويدرس فيه مرحلة ما بعد عام 2011، إلى أن “عملية التحركات الإيرانية للتغلغل في دير الزور مُركّبة، إذ كان الإيرانيون يبحثون عن شخصيات لها ثقل عشائري، لتكون مدخلاً لهم إلى المجتمع العشائري هناك، بذريعة الأصول الشيعية لبعض أجزاء هذا المجتمع، إضافة إلى فكرة إيجاد مقامات يتم بناؤها على أنها لشخصيات من آل البيت في الرقة ودير الزور، أو مزارات ذات دلالات رمزية للشيعة”، مثل إنشاء جمعية “هيئة مزارات آل البيت” الإيرانية مطلع سنة 2018، لمزارٍ عند “عين علي” قرب القورية (جنوب الميادين بـ7 كيلومترات)، وهو نبع ماءٍ، تقول السردية في إيران إنه تَفجّرَ بعدما داسته حوافر حصان الإمام علي بن أبي طالب، في الطريق لغزوةٍ سنة 37 هجرية.
ويضرب الحاج مثالاً عن الشخصيات، التي اعتمدتها إيران مدخلاً للمجتمع في ريف دير الزور “مثل حسين الرجا من قرية حطلة (شرق دير الزور)، الذي نجحت إيران باستمالته وأغدقت عليه بالأموال في التسعينيات، لينجح في إدخال التشيّع لقريته ومنها إلى مناطق مجاورة”، وكان لها دورٌ بارز في القتال لاحقاً مع قوات النظام، بعد بدء الثورة السورية، وهو ما زاد من الفجوة بينها وبين المجتمع المحيط، خصوصاً لكون الجيش الحر اقتحم في يونيو/ حزيران سنة 2013 هذه المناطق، ونسف الحسينيات الموجودة بها.
ويضيف الحاج أن “النشاطات الاستراتيجية الإيرانية في الخطة القديمة (قبل 2011)، لم تعد صالحة بعد بدء الثورة السورية، وخصوصاً مع توسع المعارضة وضعف النظام، فسارعت طهران إلى اعتماد آلياتٍ جديدة، وتكثيف الحضور بالجوانب الاقتصادية والتعليمية والإغاثية والاجتماعية؛ وبطبيعة الحال سارع الإيرانيون لتجنيد الشباب بسبب حاجتهم إلى مقاتلين يتم إغراؤهم بامتيازاتٍ عديدة، مالية واجتماعية، مع التركيز على استقطاب العشائر مثل البكارة، عبر ربط نسبهم للإمام الباقر”.
ويعتقد الحاج، أن “إيران تعوّل على الجيل الثاني من المنتسبين لمليشياتها، إذ إن الجيل الأول الموالي لإيران من أبناء العشائر، قد يكون انتسب لها على مضض، من دون إيمان مذهبي متين، ليُحصّل الامتيازات المادّية والاجتماعية، لكن بدأت تظهر معالم الجيل الثاني الذي سيكون ارتباطه العقائدي أمتنْ، مثل معظم عناصر لواء الباقر (السوريون) وهم متشيعون متعصبون”. وفي هذا السياق، يبرز الدور الذي يؤديه نواف البشير، وهو زعيمٌ في عشيرة البكارة انحاز للثورة السورية ضد النظام، وأقام لسنواتٍ في تركيا، قبل أن يزور موسكو وطهران، ويعود إلى دمشق مطلع عام 2017، قائلاً في أول كلمة له بعد عودته، “أسأنا التقدير” بالانحياز ضد النظام، وإنه عاد لـ”مواجهة الإرهاب الظلامي”، موجّهاً التحية لـ”الجيش السوري، ورئيسي، وقيادتنا السياسية”. وظهر بعد ذلك مراراً في دير الزور مرتدياً الزي العسكري، ومخاطباً أبناء عشيرته في سورية والخارج بضرورة العودة للانخراط مع المليشيات العشائرية التي أسّسها بدعم وتمويلٍ إيراني.
لماذا دير الزور وجنوبها؟
الطريق البري من العراق نحو سورية وموانئها على البحر المتوسط من جهة، ومن العراق نحو ريف دمشق ثم لبنان، يبدأ في سورية، من البوكمال جنوبي شرق دير الزور بنحو 120 كيلومتراً، وهذه الكيلومترات على أطرافها حواضر سكانية (سنّية)؛ ويبدو أن هذا الطريق البري هو أحد أهم أهداف التغلغل الإيراني في هذه الحواضر، فضلاً عن أن التغلغل المجتمعي مع السيطرة العسكرية، يمنح طهران موطئ قدمٍ يُشكّل لها عمقاً استراتيجياً يصعب إخراجها منه، مع التغاضي شبه الكامل من روسيا عن النفوذ الإيراني شرقي سورية.
ويرى الباحث سقراط العلو، وهو ينحدر من دير الزور، أن “إيران لا تعمل بشكل كامل لتشييع المجتمع في مناطق سيطرتها في دير الزور، بل ما يهمها تشييع عناصر المليشيات السورية التابعة لها بشكل أساسي، أي تشييع القوى العسكرية، مع محاولة التآلف مع المجتمع وكسب ودّه، لكون السيطرة العسكرية وحدها لا تمنح أماناً استراتيجياً كاملاً، بل هي بحاجة إلى حاضن اجتماعي، يتم استمالته عن طريق مِنح دراسية وخدمات اجتماعية وإغاثية وغير ذلك”.
ويقول الباحث الاقتصادي، إن “إيران المُثقلة بالعقوبات الأميركية عليها، تبنّت النموذج الكوري الشمالي، لتكون قادرة على تحمّل حصار وعزل طويل المدى، ريثما تقوي برنامجها النووي، وتُحسن موقفها التفاوضي مع الغرب”، مضيفاً: “خططها الاستراتيجية في سورية والعراق، تقوم على هذا الطريق بشكل رئيسي”، مشيراً إلى أن “توقيع الاتفاقيات الاقتصادية الضخمة مع العراق أثناء زيارة الرئيس حسن روحاني لبغداد (في مارس الماضي) وعددها 22، وبينها إنشاء مدن صناعية إيرانية في العراق، يؤكد ذلك؛ وهذه المدن الصناعية، تحتاج إلى طرق تصديرٍ لا بد أن تكون باتجاه سورية عبر دير الزور، ومنها يتفرع الطريق، من جهة إلى الساحل السوري وميناء اللاذقية الذي تضع ايران يدها عليه رويداً رويداً، ومن جهة أخرى إلى ريف دمشق ثم لبنان”.
عن هذا الموضوع، نقلت صحيفة “الوطن” السورية، التابعة للنظام، عن “مصدر في وزارة النقل” قوله إن مشروع ربط سورية بالعراق، “يتم العمل على إعادة تفعيله من خلال تحديد موعد لعقد اجتماع بين الدول الثلاث، وتحديد الخطوات التنفيذية للمشروع”. وقال المسؤول في وزارة النقل بحكومة النظام إن “المشروع يهدف إلى ربط الموانئ السورية مع العراق وإيران، إضافة إلى إمكانية ربط الصين في هذا المشروع”. وادعى بأن “المشروع وصل إلى مراحل متقدمة في سورية، إذ تبلغ نسبة إنجازه بحدود 97 في المائة وفي العراق بقي من المشروع بحدود كيلومترين اثنين فقط”. وبينما أشار المصدر ذاته إلى وجود “اتفاقية بين سورية والعراق للربط السككي بين البلدين عن طريق منطقة التنف، ليبلغ طوله في الأراضي السورية 156 كيلومتراً وفي الأراضي العراقية بحدود 160 كيلومتراً”، فإن كلامه يؤكد ما ذهب إليه الباحث الاقتصادي سقراط العلو، حول مساعي إيران لفتح طرقِ تجارة عبر مرورها بالعراق ثم سورية، ومن هناك إلى لبنان، وللموانئ السورية على البحر المتوسط.
المصدر: العربي الجديد