علي العبد الله
كتب الصديق جورج صبرة مقالته “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي… القصة الكاملة”، ونشرت في “العربي الجديد” (6/4/2019)، عرض فيها خطوات تشكيل تحالف إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، معتبرا أن ما أورده، كما يشير العنوان، هو “القصة الكاملة”. لكن القصة التي رواها لم تكن كاملة، فقد بقيت فصول مهمةٌ منها لم تتم الإضاءة عليها، أقصد المشهد السوري العام، النظام بشكل خاص، الذي كان حافزا لإطلاق فكرة “إعلان دمشق” بصيغتها الأولى، وما حصل داخل مؤسسة “الإعلان” الرئيسة: “مكتب الأمانة العامة” في الفترة بين تأسيس “الإعلان” وعقد مجلسه الوطني.
كان النظام الحاكم يعد لعقد المؤتمر العاشر لحزبه، البعث، في شهر يونيو/ حزيران 2005، عقد من 6 إلى 9 منه، مدفوعا بتطوراتٍ سياسيةٍ وميدانيةٍ ضاغطة: قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الذي صدر في 2 سبتمبر/ أيلول 2004، والقاضي بخروج جميع القوات الأجنبية من لبنان، والمقصود جيش النظام. اغتيال رئيس الوزراء اللبناني (السابق في حينه) رفيق الحريري يوم 14 فبراير/ شباط 2005. تشكيل لجنة تحقيق دولية للتحقيق باغتيال الحريري، بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1595 في 7 إبريل/ نيسان 2005، بدأت عملها يوم 16 يونيو/ حزيران بقيادة المحقق الألماني ديتليف ميليس الذي بدأ التحقيق مع مسؤولين كبار في جهاز مخابرات النظام بشأن دورهم في عملية الاغتيال؛ ومعاينة مواقع على الأرض السورية، قيل إن السيارة التي فجّرت بموكب الحريري أعدّت فيها. تشكيل محكمة خاصة للبنان للتحقيق في اغتيالات ضد سياسيين وصحافيين بدءا من عام 2004، تأسست بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1757 عام 2007.
وقرر النظام عقد المؤتمر العاشر للبعث، في محاولةٍ منه للتغطية على مجريات التحقيق الدولي، والمصاعب التي يواجهها، واضطرته إلى سحب جيشه من لبنان بسرعة، وبشكل غير منظم، يوم 26 إبريل/ نيسان 2005، بالحديث عن إصلاحاتٍ عميقةٍ وجذريةٍ في بنية الحزب الحاكم، أو الحزب القائد في المجتمع والدولة، وفق المادة الثامنة من الدستور السوري الدائم الصادر يوم 13 مارس/ آذار 1973، والذي صاغه حافظ الأسد على مقاسه.
لم يكتف النظام بتسريب أنباءٍ عن هذه “الإصلاحات”، بل ودعا معارضين ومثقفين للمشاركة في إعداد أوراق حولها (شارك حسين العودات وميشيل كيلو في إعداد بعضها)، كما فتح لوسائل الإعلام المحلية والأجنبية باب المشاركة في “الهمروجة” بإجراء مقابلات، وعقد ندوات حوارية بشأنها (عقدت إذاعة بي. بي. سي ندوات في قاعة في فندق الشام، شارك فيها معارضون ومستقلون).
ونظرا إلى خطورة الموقف والأثر الذي ستتركه قرارات مؤتمر “البعث” على حاضر سورية ومستقبلها، عقدت “لجنة المتابعة في لجان إحياء المجتمع المدني”، المكونة من حسين العودات (رحمه الله) وميشيل كيلو وحميد مرعي وفايز سارة وأكرم البني وحازم نهار ورضوان زيادة ومعاذ حمور وعلي العبدالله، اجتماعا في أواسط شهر إبريل/ نيسان 2005 في مكتب حسين العودات في البرامكة، ناقشت فيه فحوى التسريبات عن قرارات المؤتمر الإصلاحية، ومدى مطابقتها أو تلبيتها لتطلعات المجتمع، ومدى اقترابها من تصورات المعارضة. انتهى الاجتماع إلى اقتراح قدّمه رضوان زيادة بصياغة “إعلانٍ”، يتضمن تصور المعارضة للإصلاحات المطلوبة تحت اسم “إعلان دمشق”، توقعه قوى المعارضة، وإصداره قبل عقد المؤتمر العتيد لتشكيل رأي عام حول الإصلاحات، والضغط على المؤتمر للتجاوب مع بعض هذه المطالب. نوقشت الفكرة مع عدد من قوى المعارضة، بعد أن كتب ميشيل كيلو مشروعا للبيان، صار أساسا لوثيقة تحالف “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” بعد إجراء تعديلاتٍ اقترحتها قوى المعارضة.
أما الفصل الثاني الذي لم يرد في “القصة الكاملة” التي رواها الصديق جورج، ولا يقل أهمية عن الأول، فيتعلق بما دار في مكتب الأمانة العامة لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي؛ المكون من مندوبين عن الأحزاب والقوى والشخصيات المشاركة في “الإعلان”، 12 مندوبا، والذي كلف بإدارة نشاطات “الإعلان” الإعلامية والميدانية، استمر عمله من تأسيس “الإعلان” يوم 16/10/2005 إلى عقد المجلس الوطني يوم 31/12/2007 وانتخاب “أمانة عامة”. وقد عرفت اجتماعات “مكتب الأمانة العامة” ظواهر سياسية وأخلاقية، لا تعكس سياسات إدارة المشتركات، وأدبيات التحالف التي جمعت أطراف “الإعلان”، من بينها:
أولا، سجالات أخذت شكل حوار صاخب ومهاترات، لم تخل من تجريحٍ شخصي، بين مندوبي قوى رئيسة، خلفيتها السعي إلى الإمساك بعنق “الإعلان”، والتحكّم بمواقفه ومساراته، بلغت، في بعض السجالات، درجة التخوين (فاجأ فاتح جاموس، وكان مندوبا عن حزب العمل الشيوعي، أعضاء المكتب بورقة مطوّلة، أكثر من عشرين صفحة، يردّ فيها على ما دار في اجتماعات سابقة فيها تشكيك بالنوايا بلغ درجة الاتهام بالعمالة. والطريف قوله خلال الحوار حول الورقة في تبريره موقفه إن ابنته مايا تُستدعى للتحقيق في أحد فروع المخابرات، وأنه يضطر للبقاء عند الباب ساعات بانتظارها). كان الاجتماع يستمر، وسطيا، عشر ساعات، والمحصلة، في الغالب عدم اتفاق.
ثانيا، عدم التزام بعض الأحزاب والقوى بما يتم الاتفاق عليه من خطواتٍ ميدانية، مثل الحشد يوم الاعتصام، أو دفع الالتزام المالي في موعده. (كانت لجان إحياء المجتمع المدني التي تشرفت بتمثيلها في المكتب طوال عام 2007 الأكثر التزاما في هذين البندين).
ثالثا، تهرّب بعض الأحزاب من تقديم تقارير لاجتماعات “المكتب” عن المهمات التي كًلفت بها في المحافظات والمناطق السورية.
رابعا، محاولة أحزاب وقوى سياسية خرق سقف التوافق الذي تأسس “الإعلان” في ضوئه: التغيير الديمقراطي، بالسعي إلى إقحام مواضيع اتفق على اعتبارها شأنا خاصا بكل حزب أو قوة أو شخصية تقوم بها خارج نطاق “الإعلان” وفعالياته، مثل مواجهة الامبريالية والصهيونية، والقضايا العربية الساخنة، مثل دعم الشعب الفلسطيني، والقضايا الاقتصادية والاجتماعية.
خامسا، الصراع على حصص قوى “الإعلان” في مؤتمر المجلس الوطني الجاري التحضير لعقده.
سادسا، الصراع على ترشيح شخصيات وطنية مستقلة من خارج قوى “الإعلان”، للمشاركة في المؤتمر. كان الموقف من أي مرشح، رفضه أو قبوله، يرتبط بمن طرح اسمه لا بمواصفاته، وما يمكن أن يضيفه للمؤتمر من وزن وخبرة.
سابعا، سجال مرير على نص البيان الختامي الذي سيصدر عن المؤتمر، إذ استنزف الاتفاق على النص اجتماعات طويلة.
ثامنا، لم يتورّع مندوب حزب سياسي من تسريب مضمون الاجتماعات، بعد إعادة صياغتها بطريقةٍ تظهر ضعف مواقف أحزاب وقوى سياسية منافسة، مقارنة بقوة موقفه.
أدى المناخ غير السياسي، وغير الودي، الذي ساد فترة عمل “مكتب الأمانة العامة” إلى تمزق الروابط وتلاشي الروح الإيجابية التي جمعت قوى “الإعلان” لحظة تأسيسه، حوّلته إلى جسد بلا روح، وإلى انفجار الخلافات داخل مؤتمر المجلس الوطني، وهو ما قاد إلى انسحاب حزبي الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي والعمل الشيوعي، وإلى توريث أحقاد تجسّدت مع انطلاق ثورة الحرية والكرامة، بفشل كل محاولات عقد اتفاقٍ يجمع قوى المعارضة، للتعاطي مع الحدث العظيم بنيةٍ صافيةٍ وحركةٍ منسّقة.
لا يريد هذا السرد الرد على العزيز جورج صبرة، وإنما تصوير المشهد وسياقاته بدقة، وإنصاف “لجان إحياء المجتمع المدني” التي تعرّضت لهجوم قوى حزبية، على خلفية خوفها على دورها وإيقاع حركتها الذي بدا باهتا قياسا بما تفعله “اللجان”، بإطلاق تسميةٍ تحقيريةٍ عليها “لجان الدفاع المدني” للحط من قدرها وأهمية دورها، بعد أن لعبت، منذ تأسيسها عام 2000، دورا بارزا في تنشيط الحركة السياسية والمدنية السورية (طرحت وثيقة سياسية لجمع المعارضة على قاسم مشترك: توافقات وطنية؛ حرّكت فعاليات ميدانية: زيارة ضريح الشهيد يوسف العظمة في منطقة ميسلون، تبعد حوالي 25 كيلومترا غرب دمشق، يوم ذكرى عيد الجلاء يوم 17 إبريل/ نيسان من كل عام، بدءا بالعام 2002، لإعادة الاعتبار له وللتاريخ الوطني الذي سعى النظام، خصوصا بعد الحركة التصحيحية، إلى طمسه وإبراز دور حافظ الأسد. اضطر النظام لإعادة الاعتبار للرجل بترميم ضريحه، وإرسال وفد عسكري في الذكرى لوضع أكليل ورد عليه؛ كما أعاد نصب تمثال له في ساحة المحافظة في دمشق، بعد أن كان قد أزال تمثالا سابقا له من هذه الساحة؛ شوهد التمثال ملقى في حديقة نادي الضباط في بوابة الصالحية. وتمت الدعوة إلى اعتصام في ذكرى إعلان حالة الطوارئ يوم 8 مارس/ آذار من كل عام، بدءا بالعام 2004، وذكرى الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة يوم 5/10/1962 الذي حرم آلاف الكرد السوريين من الجنسية).
المصدر: العربي الجديد