حسن النيفي
قد توحي المواقف الأميركية الأخيرة التي عبر عنها جيمس جيفري في العاشر من أيار الجاري إلى صحيفة الشرق الأوسط، بأنها تجسيد لرؤية إدارة ترمب في الشرق الأوسط، وتحديداً حيال سورية وإيران، إلّا أن القراءة الأولية لتلك المواقف تؤكد أن ما أدلى به جيفري ليس إلّا تعزيزاً للإستراتيجية الأميركية التي بدأت واشنطن ترجمتها الفعلية في أعقاب حرب الكويت 1991، وكذلك على إثر انهيار الاتحاد السوفياتي 1992، وذلك ضمن ما يُسمى بالنظام العالمي الجديد، كما تؤكد تلك المواقف أن معظم السلوكيات البهلوانية للرئيس ترمب، والتي أربكت الإدارة الأميركية قبل خصومها، ما هي إلّا تنويعات على النهج الثابت للسياسة الأميركية في المنطقة.
حماية الأقلّيات العرقية والدينية، ونشر وترسيخ قيم الديمقراطية في العالم، ثمّ أُضيف إليها بند ثالث بعد احتلال العراق، وهو محاربة الإرهاب، تلك هي الشعارات الثلاثة التي تجعلها الإدارة الأميركية ستاراً لمجمل سلوكياتها السياسية حيال العالم، وفي الشرق الأوسط على وجه التحديد.
وبناء على تلك الرؤية، فقد أفضى الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 ، إلى تسليمه كاملاً لإيران، وتحوّل هدف ( بناء الديمقراطية في العراق)، إلى جعْله بلداً مُخرّباً تستنزفه السياسات الطائفية التي تصدّرها إيران، فضلاً عن حالة البؤس الاجتماعي التي باتت تهدّد الكيان البشري للعراق بمجمله بعواقب كارثية.
الموقف الأميركي الإعلامي من نظام الأسد منذ آذار 2011، والذي حاول أن يُضمر جانباً أخلاقياً من خلال وصفه لنظام الأسد بالمجرم والوحشي ….،لم يخفِ في جوّانيته قبولاً، بل مباركةً كاملة لمسعى حكومة الأسد نحو الإيغال في قتل السوريين وتشريدهم وتهجيرهم من مدنهم وبلداتهم وقراهم، وحين أخفق بشار الأسد في الوصول إلى بغيته الإجرامية، لم تخفِ الإدارة الأميركية مباركة مطلقة للروس في أن يؤازروا نظام الأسد على هذه المهمة، وهكذا منحت واشنطن الرئيس الروسي بوتين فرصة ذهبية في أواخر إيلول 2015 بشن عدوان غاشم على السوريين، استطاع الروس من خلاله إنقاذ حليفهم الأسد، الذي كان يوشك على الانهيار آنذاك، ولم تكن صفقة الكيمياوي – من قبل – بين ( بوتين وأوباما) على أعقاب المجزرة التي ارتكبتها قوات الأسد بالغازات السامة بحق سكان الغوطة في آب 2013 ، سوى ترسيخ للنهج الأميركي حيال القضية السورية، والموقف من نظام الأسد معاً، بل إن تماهي السياستين الأميركية والروسية بلغ ذروته حين استدعت الحاجة الأمنية الإسرائيلية عودةَ قوات الأسد للسيطرة على مدينة درعا وريفها، في آب 2018 ، حرصاً على عودة الحارس الأمين لحدود الكيان الصهيوني.
مجمل الدعم الأميركي الذي قدّمته واشنطن لقوى الثورة السورية – عسكرياً وسياسياً – كان محسوباً بدقّة بالغة، فما تمّ تقديمه من عتاد عسكري ودعم مالي لغرف ( الموم والموك)، لم يكن المراد منه تمكين المعارضة السورية عسكرياً من أجل هزيمة الأسد، أو على الأقل ردع آلته العسكرية عن قتل السوريين، بل كانت وظيفة هذا الدعم هي الحفاظ على كيانات المعارضة المسلحة دون أن يكون لها الغلبة، ولا توجد حاجة للجواب عن السؤال: لماذا منعت الولايات المتحدة وصول مضادات الطيران إلى أيدي المعارضة، إذْ كان المراد أميركياً وما يزال، هو بقاء الأسد في السلطة موازاةً مع استمراره بقتل السوريين. أمّا ما قدّمته واشنطن من دعم تحت ما يُسمى( مشاريع التنمية والإغاثة والتدريب والتأهيل و..و..و، فهو كفيل بأن يجعل الإدارة الأميركية قابضة على جميع مفاصل الحراك السياسي والمدني، ومطّلعةً في الوقت ذاته على دقائق وجزئيات هذا الحراك، ولا تجد الولايات المتحدة الأميركية أيّ بأس في أن يكون موقفها الإعلامي مناهضاً لسلوك الأسد الإجرامي، طالما أن التصريحات الكلامية لن تعطّل ما هو نافذٌ على الأرض، ولا بأس أيضاً من أن تذكّر بين الفينة والأخرى، بوجوب الرجوع إلى القرارات الأممية في أي محاولة لالتماس حل سياسي في سوريا.
كانت وظيفة هذا الدعم هي الحفاظ على كيانات المعارضة المسلحة دون أن يكون لها الغلبة
اليوم، وفي الوقت الذي يؤكّد فيه بوتين على سعيه الفعلي بالإجهاز على إدلب وشمال حماة، من خلال الحرب الحارقة التي أرادها أن تتزامن مع انعقاد الجولة الثانية عشرة من لقاء أستانا في 25 – 26 – من نيسان الماضي، في إشارة واضحة من روسيا ونظام الأسد معاً، تؤكد على أولوية الحل الأمني، وعدم اكتراث بكل المواثيق والعهود والضمانات الإقليمية، وفي الوقت الذي يتطلع فيه السوريون إلى ظهور موقف دولي، بل أميركي على وجه الخصوص، يكون رادعاً للعدوان الوحشي، ولاجماً لكارثة تطول ما يقارب ثلاثة ملايين ونصف المليون من المدنيين، تأتي تصريحات السيد (جيفري)،لتقول للسوريين: لدينا علمٌ مسبقٌ بعمليات القتل التي تطالكم، ونحن على تنسيق مع الشريك القاتل بوتين، لكن اطمئنوا بأن العملية العسكرية سوف تكون محدودة، ولن تطول عمق مدينة إدلب، وستكون ردّاً روسياً على استهداف هيئة تحرير الشام ( النصرة سابقاً ) لقاعدة حميميم الروسية. أمّا السؤال الذي لا يريد الأميركان مواجهته هو: كم ستستغرق محدودية هذه العملية؟ وكم سيُقتَل فيها من المدنيين؟ وكم ألف مواطن سوف ينزح أو يتشرّد؟ ثمّ هل كان العدوان الروسي يستهدف بالفعل جبهة النصرة، أم يستهدف بالدرجة الأولى البلدات والقرى الآهلة بالسكان، فضلاً عن استهداف المشافي والمدارس ومعظم المرافق الحيوية المدنية؟ ما هو مؤكّد أن واشنطن ليست معنيّة، بل غير مكترثة بالأجوبة عن هكذا تساؤلات، طالما أن دماء السوريين ليست في وارد أولوياتها، أي ما هو إستراتيجي، وما يزال، هو بقاء الأسد في السلطة كضرورة مرحلية، طالما أن هذه الضرورة مازالت لازمة في عملية معاركة خصومها الآخرين في المنطقة.
ما يُمارس على السوريين من إجرام خرج من طوره الاستثنائي، أو غير القانوني، ودخل إلى مرحلة ( الشرْعنة) التي تستمدّ مقوّماتها ومبرراتها من التفاهمات الدولية والإقليمية، والتي تأسستْ، ثم نمتْ على تغييب المصلحة الوطنية السورية، الناتجة أصلاً عن انعدام القرار الوطني، ما جعل السوريين المؤمنين بعدالة قضيتهم في مواجهة فاضحة أمام قهر( مُرَكَّب)، تتجسّد ملامحه الظاهرة بمصالح الأطراف الخارجية المتصارعة على الأرض السورية، وتتغذّى بواطنه الداخلية من إصرار المعارضة السورية على التماهي مع تلك الأطراف، أكثر من انحيازها لمصلحة السوريين.
المصدر: تلفزيون سوريا