حسين معلوم
أن تشهد مياه الخليج العربي ما يمكن تسميته بالخطوة الأولى في المواجهة الأميركية – الإيرانية، عبر تحرك حاملة الطائرات “أبراهام لينكولن”، إضافة إلى بعض قطع البحرية الأميركية، إلى المنطقة، فهذا يطرح تساؤلاً حول احتمالات التصادم؛ أو بالتحديد حول احتمالات توجيه ضربة عسكرية أميركية إلى إيران.. وما إذا كانت هذه الخطوة تُعد تحذيراً، أم تصعيداً، أم خطوة رادعة بعد تزايد المؤشرات على أن إيران تستعد لاستهداف القوات والمصالح الأميركية في المنطقة؟
أن نشهد تناقضات في التصريحات الأميركية بخصوص النظام الإيراني، فهذا، أيضاً، يطرح تساؤلاً حول الخطوة الأميركية القادمة… إذ نلاحظ أنه في وقت يؤكد فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن هدف بلاده ليس تغيير النظام، إنما تغيير السلوك الإيراني، ودفع نظام طهران إلى الكف عن التدخل في شؤون دول المنطقة؛ إلا أن تصريحات وزير الخارجية الأميركية مايكل بومبيو، ورئيس مجلس الأمن القومي جون بولتون، تحمل، في الوقت ذاته، مضامين تؤشر إلى الرغبة في زعزعة استقرار إيران بهدف تغيير النظام القائم. وبالتالي، يدور التساؤل حول ما إذا كان هذا التناقض مجرد مناورة تكتيكية، أم اختلاف استراتيجي بين أقطاب إدارة الرئيس ترامب؟
وأخيراً، أن يُعلن الرجل الأول في النظام الإيراني، المرشد علي خامنئي أنه “لا يُريد حرباً”، وأنه يعتقد أن “الرئيس الأميركي لا يُريد حرباً أيضاً”، فهذا يطرح التساؤل حول الموقف الإيراني من التصعيد الأميركي في منطقة الخليج العربي، خصوصاً بعد الإعلان عن إعادة انتشار القوات الأميركية في المنطقة… ثم، أن تتعرض محطتي ضخ نفطي سعوديتين إلى هجوم بطائرات “درون”، أطلقها الحوثيون من اليمن؛ وأن تتعرض أربع سفن في “المنطقة الاقتصادية الإماراتية” لعملية تخريب في المياه الدولية؛ فهذا، كذلك، يطرح التساؤل حول الرسالة التي أراد الإيرانيون توجيهها، والأطراف المقصودة بهذه الرسالة؟
تساؤلات كثيرة ومتعددة، تدور في إطار التوتر الإقليمي الذي تشهده المنطقة هذه الأيام. والأهم، هو الرسائل المتبادلة بين جانبي التوتر: الولايات المتحدة والنظام الإيراني في هذا الإطار، والذي يطرح معادلة تتعلق بـ “احتمالات” التصادم، و”حدود” التفاوض بين الجانبين.
من جانب الرسائل الخاصة بالطرفين، نلاحظ أن عملية التخريب التي طالت السفن الأربع منذ أيام، أرادتها طهران رسالة للأطراف العربية في منطقة الخليج وخارجها، بأنها ستسعى إلى اهتزاز استقرار الإقليم، وأنها لن تتضرر بمفردها من الإجراءات الأميركية الأخيرة في المنطقة. إذ، لا تترك هذه العملية، تبعاً لموقع الاعتداء وطبيعته، مجالاً للشك في هوية الفاعل؛ فهي لا يمكن أن تُنسب إلى جماعات إرهابية، بل إلى قوات خاصة تنتمي إلى دولة، على رغم كونها غير مباشرة، ولم تتعرض لهدف أميركي؛ ومن ثم، لا يمكن لواشنطن الرد عليها.
أما التصعيد العسكري لهذه الأخيرة، فيمكن اعتباره “رسالة ردع” حقيقية للجانب الإيراني، تمنع بها واشنطن أي عمل “غير مسؤول” في المياه الإقليمية، أو أمام سواحل الدول العربية؛ وهي رسالة ذات دلالة، لأن الميزان العسكري والتكتيكي، فضلاً عن الموقف الدولي، هو في صالح الولايات المتحدة في نهاية المطاف. وحتى التحفظ الذي تبديه بعض دول “حلف الأطلسي”على المواجهة العسكرية، لا يعني التخلي تمامًا عن دعم واشنطن عندما يتطلب الأمر ذلك.
من جانب آخر، يبدو بوضوح أن الرئيس الأميركي لا يسعى إلى القيام بأي مغامرات عسكرية، خاصة بعد الخبرات الأميركية السابقة في العراق وأفغانستان. هذا، فضلاً عن أن الولايات المتحدة، على رغم كونها أقوى قوة عسكرية في العالم، لم تخض حرباً ضد أي دولة، بشكل منفرد، طوال ما يزيد على نصف قرن من الزمان، وبالتحديد منذ حرب فيتنام. أضف إلى ذلك، أن سيناريو “الحرب” يُعارضه عدد من الوقائع، أهمها مبدأ ترامب “أميركا أولاً” الذي يحد من الانخراط في حروب خارجية.
يعني هذا في ما يعنيه، أن التصادم إن حدث، فسوف يكون “خياراً إيرانياً”، لسبب بسيط يتمثل في أن واشنطن ليست مضطرة لخوض الحرب، لأن العقوبات القاسية المفروضة على طهران، تحقق لها أهدافها؛ فضلًا عن أن ما نراه هو “أسلوب ترامب” في التعامل مع الأزمات، من حيث إنه يستخدم أقصى الضغوط المتاحة للتوصل إلى أقصى تنازلات من الخصم، العدو والصديق على السواء؛ هكذا تعامل مع الصين وكوريا الشمالية، وحتى مع الاتحاد الأوروبي وكندا، ناهيك عن “طالبان”، ونجح حتى الآن في الحصول على بعض من مبتغاه. ويكفي، هنا، أن نشير، كدلالة على أسلوب ترامب، إلى “التغريدة” التي كتبها في 20 أيار (مايو) الجاري، عندما قال: “إذا كانت إيران تريد الحرب فستكون تلك نهايتها رسمياً… إياكم وتهديد الولايات المتحدة مجدداً”.
يعني ذلك، أيضاً، أن الحضور العسكري الأميركي “الردعي” في الخليج العربي هو، في نظرنا، مجرد رسم خطوط حمراء لإيران لحماية الجنود الأميركيين والمصالح الأميركية في آن معاً. بل، يبدو أن الإدارة الأميركية استبدلت الحرب العسكرية، منذ أشهر عديدة، بالحرب الاقتصادية التي تتخذ “العقوبات” عنواناً لها. ولأن الإيرانيين يدركون ذلك جيداً، ويدركون، كذلك، أن حرباً مباشرة ضدهم تشكل خطراً وجودياً على النظام الإيراني بأكمله؛ نلاحظ أن الأداء الإيراني في هذه المرحلة الحرجة، هو أداء حذر ومدروس من قمة النظام هناك.
من جانب أخير، يبقى الاحتمال الأرجح هو ذلك الذي يتعلق بحدود التفاوض؛ إذ، يتمحور الهدف الواضح لإدارة ترامب، قبل عام ونيف على الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، حول التوصل إلى صفقة شاملة مع إيران، تضمن عدم تمكنها من تطوير سلاح نووي، وتحد من برنامجها للصواريخ الباليستية، وتكفها عن التدخل، عبر وكلائها، في شؤون منطقة جوارها الجغرافي العربية. أما الهدف المسكوت عنه، أميركياً، فهو الدفع باتجاه تأزيم الوضع في الداخل الإيراني، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لـ “ترويض” النظام تبعاً للمصالح الأميركية في المنطقة. بهذا المعنى، يبدو أن واشنطن ترمي إلى إعادة ترسيم مناطق نفوذها على نحو يُضعف، كثيراً، التوجهات الإيرانية وأذرعها العسكرية المتواجدة على أكثر من ساحة عربية.
صحيح أن الضغوط السياسية والاقتصادية لم تُفلح حتى اللحظة في جلب إيران إلى طاولة المفاوضات؛ لكن يبقى صحيحاً أيضاً، أن التصعيد العسكري الأميركي في الخليج العربي، وتخوف النظام الإيراني من ضربة مباشرة يمكن أن تجهض مسيرته على مدى عقود مضت، سوف تدفع طهران إلى التفاوض. ومن ثم، لنا أن نتصور أن رفض الإيرانيين للتفاوض لن يستمر طويلاً، فهم مارسوه غير مرة في أزماتهم العديدة مع واشنطن.
المصدر: الحياة