راتب شعبو
يتأهب السوريون في إدلب وجوارها، وفي غير مكان من بلدهم، لدفع ضريبة حربٍ واسعةٍ بدأت عملياتها الأولية قبل أسابيع. ما هو نوع هذه الحرب التي تمهد لنفسها في إدلب اليوم؟ كيف يمكن تصنيفها؟ وكيف يمكننا فهمها؟ منذ زمن طويل، يمكن تلمس حدوده مع سيطرة العسكرة والإسلامية (أو قل العسكرة الإسلامية) على الثورة، لم تعد معادلة “شعب ضد نظام” قادرةً على استيعاب الصراع في سورية.
منذ زمن طويل، تضعضع النظام عسكرياً، واضطر لاستقدام مقاتلين من كل العالم، يدفعهم الارتزاق أو “الجهاد الشيعي”، كما اضطر للاعتماد المتزايد على دولتين حليفتين، إحداهما عظمى، وما يعني هذا من إدخال الصراع السوري في البازار السياسي العالمي. كما تضعضع النظام سياسياً، حتى انخفض بُعده السياسي إلى المستوى الأمني، أي إلى مستوى الحفاظ على السلطة بأي شكل، وبأي ثمن، الأمر الذي جعله قادراً على ارتكاب جرائم مشينة بحق محكوميه، ما أحاله إلى ما يشبه قوة احتلال.
أما الشعب السوري، فمنذ ذلك الزمن البعيد، جرى إبعاده عن الفعل، على يد عنف النظام أولاً، ثم على يد عنف فصائل عسكرية إسلامية الطابع، يغذّيها أيضاً الارتزاق أو “الجهاد السنّي” (في انفصالٍ بائن عن معنى الثورة وعمقها). كانت هذه الفصائل تحمي الناس من النظام لتستبدّ بهم وتقتلهم، في صورةٍ مطابقةٍ لفعل النظام تجاه “محمييه”. على هذا، اضمحلّ كثيراً الحضور الشعبي المستقل، كما في مناطق النظام كذلك في مناطق الفصائل العسكرية الإسلامية، وباتت “الحدود” تقام على كل من يخرج عن السلطة القائمة، سلطة الأمر الواقع، هنا وهناك.
طرد هذا التحول الثورة وقيمها ومعناها إلى خارج الميدان، وطرد جزءاً مهماً من جسد الثورة إلى خارج البلاد، لكن الجانب الأكثر خطورة في هذا التحول هو التأسيس لصراع مدمر يدفع ضريبته السوريون من أرضهم وأرواحهم وخيراتهم، وتحرّكه مصالح ليست فقط غير سورية، بل ومضادّة للسوريين. أخطر ما في الأمر أنه تأسس في سورية صراعٌ لا يمكن تفاديه، كما لا يمكن انتظار أي نتيجةٍ سياسيةٍ مفيدة منه. في هذا، كما هو مفهوم، خسارات متوالدة للسوريين ولسورية. ومن بين الخسائر البارزة، في الفترة الأخيرة، الاعتراف الأميركي بسيادة إسرائيل على الجولان السوري. يقيننا أن الإدارة الأميركية ما كان يمكنها أن تقدم على هذا القرار، لولا هذا التحول، والذي أوصل البلد الأم للجولان إلى حضيض سياسي ومجتمعي غير مسبوق، سهّل اتخاذ القرار المذكور وتمريره.
على هدي الصورة السابقة، تبدو الحرب الدائرة في إدلب صراعاً بين ضوارِ على فريسة اسمها إدلب. منذ مايو/ أيار 2017 (أستانة 4)، اعتبرت إدلب والمناطق المجاورة لها من حلب وحماة واللاذقية إحدى مناطق خفض التصعيد الأربع، وتم الاتفاق على حدود هذه المنطقة في سبتمبر/ أيلول 2017 (أستانة 6). المناطق الثلاث الباقية هي جنوب غرب سورية (درعا والقنيطرة)، الغوطة الشرقية، ريف حمص الشمالي. وقد استعاد النظام هذه المناطق الثلاث بين مارس/ آذار ويوليو/ تموز 2018. وكان اتفاق سوتشي (سيبتمبر/ أيلول 2018) بين روسيا وتركيا من بين الأسباب التي أجلت عملية عسكرية مزمعة للسيطرة على المنطقة الرابعة (إدلب). وفي حين رحّبت جميع الأطراف بالاتفاق، كان من الواضح أنه مؤقت، وغير قابل للحياة، لأنه يحاول تفادي ما لا يمكن تفاديه، أقصد حسم موضوع السيطرة على إدلب، سيما مع وجود، ثم سيطرة، هيئة تحرير الشام (المصنفة إرهابية من جميع الأطراف بمن فيهم تركيا). من المفهوم أن السيطرة الجهادية على إدلب حالةٌ غير قابلة للدوام، أولاً لأنها توجد في منطقةٍ حساسةٍ من الناحية الجيوسياسية، وثانياً لأنها مضادّة للنسق السياسي العالمي، ولا تستطيع مقاومته.
رمى اتفاق سوتشي ثقل المهمة الأساسي على كاهل تركيا التي قبلت بالمهمة، لتفادي موجة لجوء من حربٍ كانت تبدو وشيكة. يبدو أن تركيا راهنت على الزمن الذي قد يحمل تطوراتٍ “أميركية” ما. وحين فشل الرهان، ووجدت تركيا نفسها محشورةً بين روسيا وأميركا، تخلت عملياً عن المهمة، واختارت أن تستثمر في المشكلة، بدلاً من أن تساعد على الحل. وعلى عكس المحاججات التركية التي كانت تذهب إلى أن تثبيت “خفض التصعيد” سوف يقود إلى عزل الجهاديين المتطرّفين، تمدّدت هيئة تحرير الشام، وسيطرت على كامل إدلب، وسحقت، خلال أيام، فصائل عسكرية محسوبة على تركيا، من دون أن تحرّك هذه ساكناً. وفي المقابل، لم تعترض الهيئة على تحرّك القوات التركية، لتثبيت نقاط المراقبة في مناطق إدلب. لتركيا “العدالة والتنمية” قدرة ملحوظة على التنسيق، والاستفادة من الحركات الإسلامية، بكامل طيفها.
يبقى نشوب معركة حسم السيطرة على إدلب أمرا يصعب تجنّبه. استعادة سيطرة “الدولة على كامل أراضيها عنوان هذه الحرب من موقع النظام وحلفائه، وهو عنوانٌ له قبول دولي، طالما بقي النظام ممثلاً للدولة السورية في الأمم المتحدة، وله قبولٌ لدى قطاع غير قليل من السوريين، سواء من منطلق وحدة الأراضي السورية أو من منطق الخشية من “لواء اسكندرون” آخر، أو من باب تصفية الوجود الجهادي .. إلخ. أما غالبية الأهالي هناك، فإنهم لا يرحبون بعودة النظام، وقد عبّروا عن رفضهم الصريح له في ثورتهم الأولى، كما أنه أذاقهم، بعد ذلك، صنوف القصف التي لم توفر حتى المخيمات. في عيون هؤلاء الأهالي، سوف تبدو استعادة النظام إدلب أقرب إلى الاحتلال، سيما أن حوالي ثلث المقيمين في إدلب اليوم هم من السوريين الذي خرجوا من مناطق أخرى، دخلها النظام، سواء باتفاق مصالحة أو بدونه، أي إنهم ينظرون إلى النظام عدوّا يفرّون منه.
من ناحية ثانية، تسيطر هيئة تحرير الشام (هتش)، التسمية الأخيرة، حتى الآن، لجبهة النصرة، على حوالي 80% من إدلب، وعلى حوالي 90% من الأسلحة الثقيلة، بعد أن نفذت في الشهر الأول من هذا العام، هجوماً خاطفاً ضد الفصائل الأخرى وفكّكتها، واستولت على ما تحوزه من أسلحة. على هذا تشكل الهيئة، التي ليس لها حلفاء معلنين، القوة الأساسية في مواجهة قوات النظام وحلفائه. سوريون قليلون لا يرون اليوم أن الهيئة قوة مضادّة للثورة. الفصائل العسكرية المنافسة لها تقول إنها ليست سوى نوع من المافيا، همّها الأساسي هو المال، وإنها شكلت “حكومة الإنقاذ” للتغطية على سرقاتها، بحسب اتصالات عن بعد قامت بها مجموعة الأزمات الدولية، ونشرتها في تقريرها “أفضل الخيارات السيئة لإدلب السورية”، الصادر في 14 مارس/ آذار 2019، والذي يصل إلى نتيجة تقول: “من غير الواضح إذا كانت هيئة تحرير الشام تدافع عن شيء آخر سوى الحفاظ على سلطتها”.
كل من طرفي الصراع المباشرين لا هم له في الواقع سوى الحفاظ على سلطته. تساوي الإفلاس السياسي بين هذين الطرفين السوريين الأساسيين يرد الحرب القائمة إلى بعدها العسكري المحض من الجهة السورية، ويجعلها تستمد بعدها السياسي من الأطراف الخارجية الفاعلة “الحليفة”، التي تشتري مصالحها بدماء السوريين ومآسيهم وانحدارهم على سلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد. الحرب في إدلب اليوم هي استمرار لسياسة غير سورية، بوسائل عسكرية سورية. أو هي غذاء لمصالح دول خارجية على حساب مصالح كل سورية وكل السوريين.
المصدر: العربي الجديد