خيري الذهبي
في العام 1983 قمت بزيارة مطولة للجزائر، وكان الصديق الشاعر شوقي بغدادي قد نصحني بأن أمر على مقهى في مدينة الجزائر وكان اسمه اللوتس، فهناك سألقى المثقفين، والصحافيين، وهناك سألقى السوريين العاملين والمقيمين في الجزائر، ومضيت، وكان المقهى حافلاً كما وصف لي شوقي المكان، ولقيت أصدقاء، وبدأت صداقات، وكانوا يدلونني على مقهى ما في كل مدينة سأزورها، من وهران وحتى قسنطينة. كان المقهى هو المكان الطبيعي لالتقاء الناس، وتشكيلهم الرأي العام في البلد ثقافياً وسياسياً، وأذكر أني سمعت الشاعر الجزائري أزراج عمر في ملتقى في مدينة سعيدة يخاطب الحزب الحاكم في الجزائر فيقول له: أيها الحزب الوحيد، وحدة الذئب في الصحرا تجدد، أو تحدد، أو تعدد، أو تبدد! وانقبض قلبي خوفاً على أزراج، وخوفاً على الحاضرين، وخوفاً على نفسي، فأن تلقى قصيدة كهذه ولا يعترض الحاضرون كما يجب، وكما تعلمنا أن نفعل هناك في سوريا، فهذا يعني أنّا موافقون، وهذا يعني أنّا سنساءل عن جريمة التواطؤ والصمت هذه، ولكن المسؤول الحزبي الجزائري صعد إلى المنبر ورد على أزراج ودافع عن الحزب الحاكم، وانقضى الأمر، وحين انفض الاجتماع على خير، وجاء دور الثرثرة حدثتهم في خوف وحسد أن عليهم أن يهنأوا بديموقراطيتهم هذه، وان يحافظوا عليها، فلا أحد يعرف متى تتغير الأمور، ومتى يصبح المألوف أن يلاحق من يقول مثلما قال أزراج، وكان هذا الحدث في العام 1983. أما في العام 2008 فقد قمت بزيارة أخرى للجزائر، ولكن المقاهي كانت قد ندرت وحل محلها المطاعم والبارات بشكل فاحش، وكانت سيارات المرسيدس والبيجو السوداء رعباً حقيقياً للمواطن الجزائري في زيارتي الأولى، أما في الثانية فلم أر سيارات سوداء، ولكني رأيت النوافذ والشرفات والأبواب المغلقة بالحديد، فقد كان التهديد بالسرقة واختطاف النساء والاغتصاب مروعاً. في الجزائر كانت المقاهي منتدى الرجل العادي، يستقبل فيها أصدقاءه وضيوفه ونادراً ما يصحبهم إلى البيت، وكنت ترى النساء سافرات في الشوارع، مثل معظم مدن الشرق العربي. وفي الزيارة الثانية ندرت المقاهي وتحجبت النساء، واختفى الزي الوطني النسائي المطرز الجميل وحل محله ما يمكن تسميته بالزي النسائي العربي الموحد، المانطو الرمادي أو البترولي اللون، والذي ما يغطي ما تحته من لباس، والإيشارب المغطي للرأس ونصف الوجه، ولما تساءلت عن الأمر اكتشفت أن الأمر اقتصادي بالدرجة الأولى، فهذه المرأة العاملة التي تتقاضى ما لا يكاد يستر الفاقة عندها ليست على استعداد لزيارة الكوافير كل يومين أو أسبوع، ولا تستطيع شراء ثياب يجب تبديلها كل يوم، فجاء المانطو والإيشارب حلاً يغطي ما تحته من الثياب المتواضعة ويتظاهر بأنه يعلن بأن المرأة محافظة محجبة. ما الذي تغير في العالم العربي إذن، وهل اختفاء المقهى اقتصادي، أم اجتماعي، أم سياسي؟ كان المقهى في الزمن العثماني مكاناً تلتقي فيه الطائفة المهنية، ولا بد من التخصيص، فاسم الطائفة لم يكن يعني المذهب الديني، بل كان يعني التجمع المهني ا Corporation وهو الاسم الذي يطلق على ما قبل النقابة، الاسم السياسي المعاصر، وفي المقهى تناقش القضايا والخلافات المهنية والحكم فيها شيخ الطائفة، ولم يكن مسموحاً للمهني المتدرب بأن يسمى مهنياً من دون أن يشدَّه أو يسميه شيخ الطائفة المسؤول عنه لقادم الأيام. في ذلك المقهى تناقش الخلافات ويشربون القهوة التي ظلت حقلاً لجدالات دينية طويلة في التحليل والتحريم، ألم يسموها القهوة، والقهوة اسم آخر للخمر! وأخيراً غلب التحليل وكانوا يشربون الزنجبيل المغلي والقرفة المغلية، ويتسمعون إلى سير الملوك المنتصرين سيف بن ذي يزن، والملك الظاهر الخ. وحين جاء المستعمر الغربي تعددت المقاهي وتزايدت وصارت منتديات سياسية، بالإضافة إلى كونها مكاناً لقضاء الوقت الفائض و… شرب القهوة، وكان الشاي قد دخل مشروباً جديداً منذ بعض الوقت، وظل ركن سماع السيَر موجوداً وإن شابه عروض القره كوز (الكراكوز) أو خيال الظل بين الحين والآخر. استمر هذا التقليد طويلاً حتى اختفى القره غوز والحكواتي وحل محلهما الراديو، ولكن دور المقهى السياسي ظل قائماً كمنتدى، ولم تخل حارة أو ساحة من مقهى أو أكثر، وكانت هذه المقاهي قلب السياسة النابض، ففيها يرشح النواب، وفيها تشكل وتسقط الوزارات، وفيها أسست أهم الأحزاب السياسية السورية، الحزب الشيوعي، وحزب البعث، والقومي السوري، والإخوان المسلمين. مقهيان وكان في قلب دمشق مقهيان يمثلان السياسة في سوريا، مقهى الهافانا، ومقهى البرازيل، وكانا متقابلين، ويقال إن حزب البعث أسس ووضعت خطوط أفكاره الأولى في مقهى الهافانا، وكان مقهى شعبياً يقيم فيه، وأكرر، يقيم فيه المثقفون واليساريون تحديداً، وكان الصحافيون يتبادلون الأسرار والقفشات والدسائس والمقالب فيه إلى أن جاء يوم قرر فيه المتنفذون أن هذين المقهيين لم يعد لهما من حاجة، وكان التلفزيون قد بدأ بفرض حضوره الطاغي على البلد. فكان أن هدم مقهى البرازيل لتقوم مكانها بناية مكاتب، ورغم أني مع مجموعة الأصدقاء لم نكن نتردد كثيراً على الهافانا، إذ أنها قد صارت شعبية أكثر مما يجب، إلا أننا كنا نتردد عليها حين نريد لقاءً خاصاً وبعيداً عن المجموعة. كان مقهى المثقفين هو مقهى النجمة، الذي كان بعض المدللين يتغندر فيسميه الإتوال وكان الملتقى والمنتجع، ورغم أننا كنا نعرف أنه مراقب ومخترق إلا أننا لم يكن لدينا ما نخاف عليه أو منه فكنا نلتقي فيه إلى أن ضاق أصحاب العيون الضيقة بنا وببيانات كانت توقع فيها. إذ فجأة قرر صاحب المقهى أن يحوله إلى مطعم، وهكذا طرد المثقفون منه. في تلك الأثناء لم نكن قد شعرنا بعد بوفاة المقاهي واحداً إثر الآخر، ولاختفاء كل منه حكاية لا تهمنا إلا أنه اختفى، ولم نكترث، ولكننا اكتشفنا وفاته حين طردنا من النجمة وصدر الأمر ببيع الهافانا كبوتيكات ومعارض ثياب، وقبل أن تشتد الأزمة تقدم صديق لأحدنا كان لديه مطعم في بيت شامي. وكان المطعم كاسد فعرض علينا استخدامه كملتقى لنا، ووجدناها فرصة لفرض شروطنا للمرة الأولى ووافق، فجعلنا جانباً منه معرضاً دائماً للرسم وجانباً لمكتبة لأحدث الكتب، وجانباً لقراءة الصحف، وكان اسم المطعم اللاتيرنا أو القنديل، واستطاع المنتدى أن ينجح المكان ولكنه ما إن نجح واستقطب الزبائن حتى بدأت المشاكل، فقد اختلق صاحب المطعم مشكلاً ما انفصل على إثره صديقنا الحالم والمكلف بالإشراف على المقهى المنتدى، ولكننا استمررنا في ارتياده، فلم نكن نملك خياراً آخر، وجاء يوم جاء إلينا فيه صاحب المطعم ليعلمنا بصراحة أن (هم) جاؤوا إليه وطلبوا منه أن يفهمنا أننا لم نعد مرغوباً بنا في هذا المكان، وبدأت سلسلة المضايقات.
أخذنا نبحث عن مقهى آخر لنكتشف أن دمشق لم يعد فيها من مقاه إلا ما يمكن عده على الأصابع، وأن أكثرها لا يتناسب معنا، إما لغلائه الفاحش كفندق الشام، أو لشعبيته وازدحامه المبالغ فيه، وحين قررنا العودة إلى الهافانا اكتشفنا أنها بيعت لتحول إلى بوتيكات، فقمنا بحملة صحافية للدفاع عن تاريخية المقهى، وادّعينا أن ضميرنا لن يرتاح إن قالت الأجيال القادمة إن مكاناً أسس فيه حزب البعث قد تحول إلى بوتيكات، وأفلحت الحملة فأعطي المقهى إلى صاحب فندق الشام!!! ولما احتججنا بأن أسعاره ستكون أعلى من قدرتنا على الدفع وعدونا بأننا ستكون لنا أسعار مخفضة، ولكن الشروط والبطاقات وإبرازها والتشكك بها والمضايقات جعلت تنفيذ الوعد مذلاً فتركنا لمن يملك الدفع.
وكان هناك مقهى شعبي قريب من مجلس الشعب يدعى مقهى الروضة، وكان مقهى للمتقاعدين ولاعبي الطاولة و(الصافنين) طويلاً، هذا المقهى أصبح ملاذنا الأخير بعد طرد المقاهي الأخرى لنا بشكل، أو بآخر، فقمنا بعد تردد طويل باختيارها مكاناً للقاءاتنا، ولكن ربيع دمشق الذي توهج في الأعوام 2002 2004 جعل بعض من آمن بإمكانية التغيير في النظام عبر الحوار وإيصال الاحتجاجات، فقاموا مرة بوقفة احتجاجية قصيرة أمام مجلس الشعب، ثم تفرقوا وربما قصد بعض منهم المقهى لأن الأمن داهم المقهى فجأة وقبض على معظم رواد المقهى وحملهم في سياراته إلى مدينة عدرا القريبة من دمشق، وهناك وبعد تحقيق مضحك، فمعظم المقبوض عليهم كانوا في الستينيات، ثم أطلقوا سراحهم هناك، أي على مبعدة أكثر من ثلاثين كيلومتراً، وكان عليهم أن يتدبروا رجوعهم سعداء بنجاتهم.
منذ ذلك الحين ابتعد الكثيرون حتى عن هذا المقهى، المصيدة، وهكذا وصلنا إلى حلم الدولة؛ العزلة في البيوت والخلوة مع التلفزيون، فلقد اختفت كل مظاهر المجتمع المدني من البلد، فلا نوادي، ولا مسرح، ولا سينما، فالموجود منها لا يشفي الغليل، وبهدوء اكتشفنا أننا قد حققنا حلم أجهزة الأمن والاستقرار في العالم، فلقد تخلينا، أو تخلى المسرح عنا، بعد تجفيفه وتخشيبه، ولا سيما بعد أن أدت القطيعة بين سوريا والولايات المتحدة منذ العام 1967 على مستوى السينما إذ امتنعت الولايات المتحدة عن السماح بعرض أفلامها في سوريا معتبرة أن مؤسسة السينما جهة احتكارية والقانون الأميركي يمنع التعامل مع الاحتكارات، وكان القانون السوري المنحدر منذ أيام الاحتلال الفرنسي يمنع العسكريين جنودا وضباطا من دخول أماكن اللهو في ثيابهم العسكرية – والسينما مكان لهو- هذا القانون كان قائد سرايا الدفاع السابق رفعت الأسد قد أحل جنوده منه فاندفعوا ببساطيرهم وخشونتهم إلى السينمات، فهربت العائلات خوفاً على نسائها من فظاظة هؤلاء الناس الذين لم يكن من قانون يضبطهم إلا قرارات قائدهم فقط. وهكذا صارت البلد لا سينما ولا مسرح، ولا مقاه فيها. فأين يلتقي الناس؟ والناس مخلوقات اجتماعية بالطبع، وهكذا اتجهوا إلى المكان الوحيد المسموح لهم باللقاء لهم فيه، المساجد!!! ثم يعتبون على تغير المزاج العربي من مزاج مديني يجد متنفسه في المقاهي إلى مزاج لم يتركوا لهم غيره متنفساً.