إبراهيم صموئيل
سواء أكان دفعة واحدة، أو بالتدريج والتقادم، فإنَّ المعزوفة التي تمَّ ترويجها تحت عنوان: “أين أنتم أيُّها المثقّفون العرب؟”، والتي ظلَّتْ تُعزف بأقلامٍ عديدة على آلات عدّة، وبتوزيع موسيقيّ متنوّع، منذ الأيّام الأولى لبزوغ الثورات العربية؛ قد اختفت تمامًا اليوم، بعد أن ملأت وسائل الإعلام المختلفة بحدّتها وبغضبها.
زالت المعزوفة وصمت أصحابُها. ما من أحدٍ -اليوم- بات يسأل أو يتساءل: أين أنتم أيّها المثقّفون مما يجري من نهوضٍ شعبيّ في البلدان العربيّة؟ أين أقلامكم ولوحاتكم وألحانكم وثقافاتكم ووجودكم العضوي من الثورات العربية؟ والملاحظ أن تلك النداءات لم تكن تساؤلات واستفهامات، بقدر ما كانت استنكارات واحتجاجات، وصلت إلى حدود الإدانة الصريحة، بل ذهب بعضُها إلى أبعد من ذلك بكثير!
ولكنْ، ما الذي دفع بتلك الفقاعة إلى أن تنبثق وتنتفخ وتتطاير في فضاء وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ثمَّ تنفقئ وتتلاشى؟ ما الذي حدا بأصحابها إلى أن يستعيروا حصان محمود درويش للتعبير عن استنكارهم قيام المثقّفين بـ “ترك الحصان وحيدًا”، ويستعير آخرون رموزًا أخرى لاستهجان وازدراء موقف المثقّفين من الثورات العربيّة؟
ما الذي أسَّس -وإنْ كان الأمر مرَضًا نفسيًا، أو تهيُّؤًا أصاب مُطلقي بالونات الاستنكار والإدانة- للحملة الإعلاميّة التي شهدناها مع انطلاق النهوض العربي، وعلى الأخص مع بدء حلقته السورية؟ ما الذي أسس، وما الذي دفع وحَضَّ، وواقع حال معظم مثقّفي سوريّة -فضلًا عن بلدان أخرى- بين حجارة رحى الاستبداد والقمع والسجون والمنع والتضييق والتهميش، منذ تكليف الأسد الأب بالاستيلاء على السلطة؟
ما الذي حدث، والحال أن أصحاب تلك المقالات المُتسائلة استنكارًا على معرفةٍ تامّة، بل وصداقات شخصيَّة مع مثقّفين لطالما عارضوا وواجهوا سلطات الأنظمة الحاكمة في بلدانهم -قبل سنوات طويلة من اندلاع الثورات- واعتُقلوا وسُجنوا وعُذّبوا ودَفعوا، من حيواتهم وحيوات أُسرهم، أثمانًا باهظة جدًا، للأسباب نفسها والغايات نفسها والآمال نفسها التي دفعت بالشعوب العربية إلى النهوض والمواجهة مع الأنظمة والسلطات الحاكمة؟!
ربَّما يقول أصحاب تلك المعزوفة إنّهم لا يتوجَّهون -بطبيعة الحال- بكتاباتهم إلى المثقّفين المُعارضين، وعلى الأخصّ منهم مَنْ اُعتُقلوا جرّاء معارضتهم، بل إلى مثقّفين اصطفّوا إلى جانب النظام وقاتلوا بسيفه ضد شعوبهم، وإلى مثقّفين آخرين قبعوا في المنطقة الرماديّة، ساكنين صامتين، ليسوا مع ولا ضدّ.
وقولٌ كهذا -فضلًا عن كونه مُخاتلًا- لا يستوي مع هذه الفئة المشار إليها من الموالين أو الصامتين؛ ذلك أن مواقعهم، وآراءهم، ومواقفهم معروفة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، سواء لجهة تأييد النظام أو لجهة الحياد والصمت، مما لا يعوزها تساؤلٌ أو حضٌّ. فعلامَ هذه المعزوفة من أساسها؟ وما الغرض من توجيهها؟ علامَ التساؤل: “أين أنتم؟” والمواقع والمواقف والانتماء معروفة مكشوفة؛ إلا أنْ تكون الغاية إظهار المثقّفين -كلّ المثقّفين- في حال من السلبية والانهزامية والجبن. وهذا ما يدفع إلى التساؤل ليس عن مواقع ومواقف المثقّفين، بل عن غايات واضعي المعزوفة وناشريها، خصوصًا في ظلّ التعميم الغالب على كتاباتهم.
بعد هذا وقبله، للمرء أن يتساءل: أيّ جرأة -كي لا أستخدم تعبيرًا آخر- لدى أصحاب تلك الكتابات التي بخَّرتها الوقائع -فضلًا عن ولادتها مُتعامية- حتى يغضّوا النظر عن كونهم مُثقّفين أيضًا! أيْ أن المُنادي أو المُتسائل أو المُحتجّ أو الغاضب… من الفئة نفسها التي للمُنادى وللمغضوب عليه؛ فلماذا استثنى نفسَه من النداء، ولم يكن من جملة المغضوب عليهم؟ أم أن الغرض الرئيس من المعزوفة كلّها وإطلاق فقاعات تذمُّرها مجرَّد الإشارة إلى عازفها وتظهيره فحسب! أيًّا كان، فقد سكتت تلك الأصوات، وسكوت بعض الأصوات يكون ذهبيًّا حقًا.
المصدر: جيرون