حسن النيفي
شهد يوم 30 من حزيران الفائت، وصول السيد أنس العبدة إلى رئاسة الائتلاف للمرة الثانية، إذ إنه كان قد شغل هذا المنصب في المرة الأولى عام 2016 ، كما شهد اليوم ذاته وصول السيد عبد الرحمن مصطفى( الذي كان يتولى رئاسة الائتلاف) إلى رئاسة الحكومة المؤقتة، وبعيداً عن الدخول في التفاصيل حول شرعية أو عدم شرعية وصول الرجلين إلى مبتغاهما، وكذلك بعيداً عن تكرار الحديث حول نشأة الائتلاف وتقييم سلوكه السياسي عبر صيرورة ثماني سنوات مضت على تشكيله، فإن ما يلفت الانتباه، بل ما يجب الوقوف عنده، هو ردّات الفعل في أوساط السوريين، ممن انحازوا إلى الثورة، و أعلنوا القطيعة مع نظام الأسد منذ آذار 2011 ، ذلك أن ردّات الفعل – على الرغم من عفويتها في غالب الأحيان – فإنها تكشف درجات الوعي، ومستوى التفكير، وأنماط السلوك، التي يتعاطى من خلالها جمهور الثورة مع الأحداث.
ما زاد المسالة تعقيداً هو افتقار أكثر السوريين إلى الأطر الناظمة لمواقفهم وقناعاتهم ( أحزاب – هيئات – جمعيات ….إلخ)، الأمر الذي جعل من وسائل التواصل الاجتماعي الوسيلة المتاحة لمن يريد الكلام، دون أي ضابط أو ناظم أو معيار رادع، وإذْ نحن أمام سيل متلاطم الأمواج من الآراء التي اختلط فيها الغث والسمين، والنافع والمؤذي، بل ربما انحدر مستوى التعبير عند البعض إلى مستويات كلامية لا تليق بالثورة ولا الثوار.
ما هو مؤكّد أنّ من حق السوريين جميعاً أن يعبروا عن آرائهم وقناعاتهم دون وصاية من أحد، بمن يمثلهم أو يدّعي تمثيلهم، ويفاوض الأطراف الأخرى حول مصيرهم، وأيّ مسعى لسلْبهم هذا الحق هو اعتداء على حقوقهم، بل إهانة لثوابت ثورتهم ومسلّماتها الأولية، إلّا أن هذا الحق الذي انتزعوه بفضل تضحياتهم ودماء أبنائهم وشقاء مشرّديهم ومهجّريهم، لن يحافظ على نصاعته وشرعية حيازته، ولن يؤتي ثماره المرجوّة منه، إلّا إذا مورس في سياقه الصحيح، أي البناء على مقدّمات راسخة وصحيحة، بغيةَ الوصول إلى نتائج أكثر نجاحاً.
لغة السباب والشتائم المقذعة والتعريض بالأشخاص، واتهام الآخر دون أيّ بيّنة، واختلاق قصص وأحداث تفتقر إلى أيّ دليل، والتركيز على السِيَر الشخصية دون السلوك السياسي، واتباع أسلوب التجييش الأعمى والتهويل إلخ، كل ذلك – بالمطلق – لا يدنو إلى حرية الرأي، لا من بعيد، ولا من قريب، بل على العكس من ذلك، إنه سلوك مسيء، يكرّس ما هو مذموم ولا يزيله، إنها إساءة تطال الثورة وقيمها قبل ان تطال أعداءها، لأن المضامين القيمية للثورات هي مزيج أخلاقي لا يمكن أن يتقوّم إلّا على مبدأ الحق والكرامة ومحاربة الظلم و تكريس سلطة القانون، ثم إنه مسيء كذلك، لأنه يعطي الفرصة للجانب المستهدَف باتهام جميع منتقديه، حتى الذين يخاطبونه بلغة العقل والحكمة، بالغوغائية، وبالفعل هذا ما يحاول كثير من أعضاء الائتلاف استثماره في الدفاع عن مواقفهم.
يمكن للمرء، بل يتوجب عليه، أن يتفهّم مقدار السخط الهائل الذي يمور في نفوس السوريين، كما يمكنه كذلك، أن يدرك مدى الاحتقان الذي يمتد إلى حدود النقمة لدى الجميع، وذلك جرّاء استمرار المأساة السورية، وتضافر جميع العوامل، الداخلية والإقليمية والدولية، على الإمعان في قتل أحلام السوريين، والغدر بتطلعاتهم، وتأبيد معاناتهم، ولئن كانت حالة الاحتقان والسخط هذه لها ما يبررها أحياناً، كونها شأناً نفسياً يتمرّد على الإرادات الواعية أحياناً، وحتى تكون في سياقها الطبيعي، يجب أن تبقى في إطارها ( الطارئ أو الظرفي – الراهن)، ولا تصلح أبداً لأنْ تكون حالة يمكن البناء عليها.
ما من شك أن أعضاء الائتلاف ليسوا جميعاً مذمومين، كما أنهم ليسوا جميعاً محمودين، فمنهم المناضل المخلص الذي يسعى لخدمة بلده، مشفوعاً بتاريخ نظيف يشهد له في مقارعة الاستبداد، ولكنّ هذا الإرث النظيف لن يكون عاصماً له إلى الأبد من السقوط أو الوقوع في نقيض ما كان عليه، ذلك أن كثيراً من قادة الثورات وحركات التحرر الوطني الذين جسّدوا قيمة نضالية في فترة من الفترات، انتهوا إلى طغاة ومستبدّين حين مارسوا السلطة واستبدّ بهم حبّ الذات. ومن أعضاء الائتلاف – أيضاً – من أعلن عن استقالته عندما أيقن بعدم وجود مسعى جدّي لإصلاح هذا الكيان، فأراد ألّا يكون شاهد زور على فساد يتكرّس يوماً بعد يوم، فهؤلاء تُحسب لهم مواقفهم . ومنهم أيضاً المتسلق الذي يجسّد وجوده في مؤسسات الثورة عاراً فاضحاً.
ولئن كان هذا النسيج المتباين داخل مظلة الائتلاف يستدعي من جميع السوريين عدم تعميم الأحكام، وتحرّي التمييز، إبان أي مراجعة نقدية، حرصاً على الموضوعية، وبُعداً عن التجنّي، وإحقاقاً للإنصاف، إلّا أنه من جهة أخرى، ثمة سمات عامة، قد وسمت الائتلاف ككيان عام، بغض النظر عمّن وُجِدَ فيه من أشخاص، ومعظم السمات قد تكوّنت بفعل تناميها من داخله، ولم تكن وافدة عليه من الخارج، وما كان منها وافداً فقد تعزّز حين وُجِد المناخ المناسب لنموّه، ولعل لا أحد من السوريين بات يجهل أن الائتلاف جاء كمطلب دولي أولاً، وكان صنيعاً خارجيا أكثر منه مُنتَجاً وطنياً، ولئن سكت الكثير من الثوار السوريين وأبدى بعض الرضى عن هذا الصنيع إبان تشكيله في تشرين الثاني عام 2012 ، فليس ذلك إلّا بدافع الأمل بتحوّله تدريجياً إلى مؤسسة وطنية مكتملة البناء من النواحي التنظيمية والإدارية بما ينسجم مع مستجدات الثورة وصيرورتها، وهذا ما لم يحصل، إذ ازدادت تبعية هذا الكيان للإرادات الخارجية، إلى درجة بات فيها القرار الوطني مسلوباً في جزء كبير منه، ومن حق السوريين أن يبدوا نكرانهم، بل سخطهم، على كيان كان خاذلاً لتطلعاتهم، ولم يواكب مُنجزُه الحدّ الأدنى من تضحياتهم.
ثم إن جميع أعضاء الائتلاف يقرّون بأن ثمة خللاً أو أخطاء في بنية هذا الكيان، باتت عصيّة على الإصلاح، وقد أخفق اكثر من رئيس في إصلاح هذا الخلل البنيوي، وعلى الرغم من هذا الإقرار الذاتي فإن جميع المنضوين تحت هذه المظلة ماضون في تكريس هذا الخلل، على مدى ثماني سنوات، في الوقت الذي لا يملكون من الردّ على منتقديهم سوى الوعود المسوّفة، ألا يحق للسوريين أن يقولوا لهؤلاء: إن دماء أبنائنا وجميع أشكال مأساتنا ليست حقل تجارب إلى الأبد لمواهبكم القيادية؟
ولعلّ الأهم من ذلك هو تمسّك معظم أعضاء الائتلاف بمقاعدهم أو عضويتهم منذ تشكيله إلى الآن، وإنْ طرأ بعض التغيير، على بعض الوجوه، فذلك يعود لأمرين، فإما يتم ذلك من خلال بعض التدوير أو التعاور على تبادل المواقع، أو أن أحداً قدم استقالته فتم التعويض عنه بوافد جديد مصحوباً بوساطة أو علاقة وطيدة مع المتنفذين داخل كيان الائتلاف، ولنفترضْ أن من يرفض المغادرة منهم، إنما يفعل ذلك لاعتقاده أنه يؤدي أداءً حسنا في خدمة القضية السورية، فهل قيامه بواجبه يمنحه الحق بعدم مغادرة هذا المقعد؟ وكيف ينسجم شعار من ينادي بالديمقراطية وتداول السلطة، بينما هو يعضّ بالنواجذ والأقدام على سلطة وهمية لا تنطوي سوى على مكاسب لا تتجاوز نطاقه الشخصي؟
لا مراء على الإطلاق، في أن الشتم والتخوين والتعميم الغوغائي، والتحريض المجاني، والاستهداف الشخصي، ليس إلّا انحداراً قيمياً، والاستمرار به هو انحدار أكبر عن مناقب الثورة، فدعْكم – أيها السادة أعضاء الائتلاف – من الشتامين والغوغائيين وأصحاب الجوقات الفيسبوكية، فهؤلاء لن يضروكم بشئ، ولم يجسّد ضجيجهم المتعالي صوت الثوار أو قناعاتهم، بل لعل هؤلاء الغوغاء قدّموا لكم خدمة كبيرة، أعني أنهم وفّروا لكم فرصة لحيازة مقدار من المظلومية تشهرونها – كرادع – في وجه منتقديكم من الوطنيين الغيورين على بلدهم، ولكنّ التضامن معكم ضدّ ما يطال أشخاصكم الكريمة من حيف، لا يبرئكم ممّا حصّنتم أنفسكم به من إستبداد، واستخفاف بالمسؤولية، واستهتار بإرادة أصحاب الدم. ما أعتقد أنه صحيح هو أن تتجاوزوا – أيها السادة أعضاء الائتلاف – ضجيج الشتائم التي يستهويكم شيوعها وبقاؤها، وتبحثوا عن الأسباب الجوهرية لسخط السوريين وحنقهم عليكم، كما عليكم أن تدركوا قبل أي شيء، أن السوريين استلهموا من ثورتهم أمراً عظيماً، هو أن مهادنة الاستبداد ما هي إلّا سعيٌ نحو تكريسه.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا