خورشيد دلي
لعل أفضل وصف للاتفاق الأميركي – التركي في شأن إقامة منطقة آمنة في شمال شرقي سورية، هو اتفاق على “اللاتفاق”. ذلك أن البيان الختامي للمحادثات بين الجانبين جاء عاماً وغامضاً، كما أنه لم يتطرق إلى القضايا الأساسية ولاسيما المتعلقة بعمق تلك المنطقة، والجهة التي ستشرف عليها.
وعليه، جاء الاتفاق المعلن بمثابة إنقاذ لماء وجه الطرفين كما يقال. ولعل قراءة البنود الثلاثة التي خرج بها البيان الأميركي – التركي، تضعنا أمام جملة من المعطيات التي تشي بأنه لم يكن هناك اتفاق في الأساس، وأن ما صدر أقرب إلى بيان سياسي، حقق أهدافاً مؤقتة، لعل أهمها:
أولاً: أبعد الاتفاق إلى حد كبير الخيار العسكري التركي من الطاولة، بعدما كانت تركيا حشدت قواتها، وهددت مراراً بالقيام بعملية عسكرية في أي وقت. وعليه، فإن الاتفاق أوجد مخرجاً لأردوغان في نزع هذا الخيار أو حتى تأجيله، مع أن التهديدات التركية لم تتوقف بعد الإعلان عن الاتفاق.
ثانياً: إن الاكتفاء ببيان عام وعدم التوصل إلى اتفاق نهائي، يعني أننا سنكون أمام سلسلة جولات جديدة من المحادثات الطرفين، وفي ظل تباعد المواقف، فإن هذه المحادثات مهددة بالفشل، لاسيما أن أردوغان يريد مواصلة الضغط والتصعيد، تهرباً من مشكلاته الداخلية الكثيرة من جهة، والاستمرار في سياسة استهداف المكون الكردي الذي بات حليفاً للإدارة الأميركية التي تعهدت مراراً التزامها حمايته.
ثالثاً: إن صيغة المحادثات بدت متجهة إلى إقامة منطقة عازلة أكثر من إقامة منطقة آمنة، فخلافاً لمفهوم المنطقة الآمنة الذي يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن وإلى قوات دولية لإدارة المنطقة، بدا الحديث يدور حول إدارة أميركية – تركية مشتركة على شكل آلية أمنية في هذه المنطقة الحدودية، ولعل هذه الصيغة تذكرنا بالاتفاق الأميركي – التركي في شأن منبج. في الواقع، كان لافتاً فور الإعلان عن الاتفاق الأميركي – التركي، حجم الاحتفاء التركي به، فالتصريحات الرسمية التركية وعلى أعلى المستويات ذهبت إلى حد القول إن الجانب الأميركي اقترب كثيرا من الرؤية التركية، كما أن الصحافة التركية سارعت إلى تصوير الأمر وكأنه انتصار سياسي. في المقابل، بدا الموقف الأميركي أقرب إلى الصمت والحذر، إلى درجة أن ناطقاً باسم البنتاغون اضطر إلى التوضيح أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق لإقامة منطقة آمنة، وأن ما جرى هو بحث عن آليات لإقامة مثل هذه المنطقة، ولعل السيناريو ذاته تكرر عندما جرى التوصل إلى اتفاق بين الجانبين في شأن منبج، والذي تقول تركيا إن الجانب الأميركي لم ينفذ التزاماته بخصوصه إلى اليوم. وهو ما قد يجعل من إقامة منطقة آمنة مجرد أمنيات لا أكثر.
في الواقع، وأبعد من قضية إقامة منطقة آمنة، ثمة حرص أميركي – تركي للتوصل إلى تفاهمات تتجاوز قضية إقامة هذه المنطقة، فمنذ تسلم الموفد الأميركي جيمس جيفري مهامه، بدا الأخير يتحرك انطلاقاً من قناعة قديمة لديه، وهي أنه ما لم تتم إعادة تركيا إلى صف السياسة الأميركية في سورية، فإن الجانب الأميركي سيواجه صعوبات كبيرة، سواء لجهة السعي إلى إخراج القوات التابعة لإيران من سورية أو الحد من النفوذ الروسي، أو لجهة العودة إلى صيغة جنيف واحد لحل الأزمة السورية. في المقابل، تدرك تركيا، التي اقتربت كثيراً من روسيا على وقع صفقة “إس “400، ومن روسيا وإيران معا على وقع اتفاقات آستانة وسوتشي، أنها تمتلك ورقة موقعها الاستراتيجي في الحفاظ على العلاقة التاريخية مع الولايات المتحدة، ودفعها إلى التجاوب مع أجندتها، ولاسيما إذا كانت هذه الأجندة مرتبطة بالأكراد، وقضاياهم في المنطقة، إذ تشكل القضية الكردية جوهر السياسة التركية في تحديد الموقف والسياسات والعلاقات من أي دولة في العالم.
وعليه فإن الاتفاق على إقامة منطقة آمنة بين الجانبين، يخضع لاعتبارات كثيرة تتجاوز الأهداف المعلنة من إقامة هكذا منطقة إلى ترتيب العلاقات بينهما، وتنظيم الخلافات، بحثاً عن توجهات استراتيجية لدى الطرفين. من هنا، ينبغي القول إن الاتفاق الأميركي – التركي في شأن منطقة آمنة يشكل اختبارا جديدا للعلاقات بين الجانبين، وهو اختبار يحتمل سيناريوات الفشل أكثر من النجاح، في ظل الأزمات ، ومراهنة الرئيس التركي على اللعب بين التناقضات الروسية – الأميركية من جهة ثانية، والطموحات الجامحة ، فيما بدت مثل هذه الخيارات والممارسات السياسية التركية، تشكل ضرباً للثوابت العلاقات الأميركية – التركية التي باتت تدخل من اختبار إلى آخر.
المصدر: الحياة