أحمد مظهر سعدو
كان دائمًا ومنذ أن ألغى المقبور حافظ الأسد السياسة من المجتمع السوري، بونًا شاسعًا بين النخب السورية وباقي أنساق الشعب السوري، ولم تستطع هذه النخب رغم كل المعاناة السورية، منذ أربعين عامًا وأكثر، الخروج من عنق الزجاجة، بل بقيت محلقة في ملكوت آخر، وفي برج عاجي متطاول أحيانًا، وهابط للقعر أحيانًا أخرى، حتى جاءت الثورة السورية، ثورة الحرية والكرامة، أواسط آذار/ مارس 2011، لتتخطى النخب والقوى السياسية معها، وتتقدم أمامها بدلًا من أن يكون العكس، وظلت النخب مترددة ، أو متخوفة، أو مشككة في بعض الأحيان، مما ترك مسافة كبيرة بينها وبين قطاعات الشعب السوري، خاصة قطاع الشباب، الذي تجاوز كل محظور وانطلق لا يلوي على شيء، بصدره العاري، وقوة إرادته، وإيمانه بالحرية المفتقدة ضمن سياقات العسف الأسدي، لتجد النخب السورية نفسها في حيرة من أمرها، هل تلتحق بفوران الشباب؟ أم تبقى في برجها العالي، تلاقح البعد النظري، والايديولوجي، وترسم خرائط جمة، لأنساق مجتمعية قد لا تكون متلاقية مع ما يصبوا إليه المجتمع السوري، الذي تجاوز حاجز الخوف، بل حطمه وكسره، منذ أول صرخة حرية، هتف بها، أو صدح فيها في سماء دمشق الأموية، في المرجة وأمام الجامع الأموي الكبير، ثم تتابعت أصوات الحرية في كل بقاع الوطن السوري المسروق لصالح آل الأسد، من درعا إلى حلب، وإدلب وحمص وحماة ودير الزور والقامشلي وكل قرية سورية وريف وصحراء من أرض سورية المتطلعة إلى الحرية والكرامة الإنسانية.
وكما يقول الدكتور (برهان غليون) فإن ” مصدر القلق والخوف وضعف التفاؤل هو استمرار النخبة السياسية السورية المعارضة التي التحقت بالثورة، أو انشقت عن الأسد، أو التي هي في طريقها إلى أخذ مسافتها عن نظامه، في تبعثرها وانقسامها، وعجزها عن الخروج بنفسها من حالة التخبط والإحباط التي لا يبدو أن لديها القوة والحنكة اللازمتين لتجاوز عقباتها في القريب، والانتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ تمكّنها من تنظيم نفسها، والتعاون في ما بينها، على بلورة مشروع سياسي واضح، ومقبول لدى أطرافها، ولدى الجمهور المتطلع إليها، والعمل بجد وثقة على إنجازه، فالذي يهيئ لقيام الدولة وتوحيد المناطق المتناثرة والمتباعدة التي انفصلت عنها، أو استقلت بنفسها، بسبب الحرب الطويلة وانقطاع التواصل في ما بينها، هو وجود نخبة موحدة، أي تعمل على مستوى البلاد، وتفكر على هذا المستوى الشامل أيضًا. ومن دون هذا النمط من النخب السياسية، لا يمكن إقامة دولة، ولا إعادة بنائها”.
إذًا هو غياب المشروع وافتقاد وجود العقد الاجتماعي الذي يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يبدد، يتلاقى مع الجميع، ولا يقصي أحدًا. ويبدو أن هذا الغياب طال انتظاره، وتجاوز الزمن كل مسببات تأخيره، حتى بات لسان حال كل الوطنيين السوريين، الذين يعملون من أجل خروج آمن من ذاك العنق لزجاجة، لا يجب أن تكسر، بل البقاء المتماسك من الممكن أن يكون أكثر قدرة، على التخطي، والتجاوز، ولم الشمل، قبل أن يصبح من الصعوبة بمكان إعادة اللحمة الوطنية من جديد ومن أجل حالة تماسك اجتماعي وطني حقيقي.
الواقع السوري وبعد ثماني سنوات ونصف من عمر الثورة، يبحث عن نخبة قادرة ومقتدرة، تمسك بيده، وترسم ملامح المشروع الوطني الديمقراطي، بعيدًا عن التشظي المُفَتِّت، بل التنوع المتعدد والثري، الذي يحمل جوانيته، عوامل النهوض، وبذرة الأمل، نحو مستقبل مشرق لسورية الوطن والناس، سورية المرتبطة بمحيطها العربي، والإسلامي، وليس الفارسي، وضمن حالة فهم ووعي وتفهم موضوعي لسياقات العولمة غير المتوحشة باعتبارنا أحد أجزاء القرية المعولمة.
ولعل تنامي الوعي بضرورة التحرّك على الأرض، (كما يشير غليون أيضًا) والانخراط في العمل السياسي الحقيقي الذي يستطيع وحده تغيير الوقائع والتصورات التي ارتبطت بالثورة، وإعادة تأهيل القضية السورية قضية حرية وتحرّر شعب، لا حربًا أهلية طائفية، كما عبرت عنه احتجاجات السوريين على الصمت العالمي على القتل المستمر للأطفال والمدنيين عمومًا في إدلب وتهجير سكانها.
لكن ما تزال هذه الإشراقات للأسف ضعيفة ومحدودة، بالمقارنة بما يسود صفوف النخبة السياسية تلك التي نشأت في حضن الثورة والمعارضة، من تخبط وغرق في مستنقع انعدام الثقة المتزايد، والتشكيك بالنفس، وعملية التحطيم المتبادل للرموز. وللأسف، لا تزال المراجعة الواسعة التي يشهدها الوسط السياسي المعارض، وفي أغلب الأحيان، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تسير في الطريق الخطأ، لأنها بدل أن تركّز تفكيرها على البحث في القضية وملابساتها وتعقيداتها، والخيارات السياسية التي كان من المطلوب اتخاذها، ومعرفة صواب ما طبّق منها وخطئه، تكاد تقتصر في انتقاداتها على المحاسبة على النوايا والتشكيك فيها، والتركيز على الخصائص الشخصية للأفراد وتصب جميعًا في دائرة الانتقام وتغذية الصراعات والأحقاد المتبادلة. وقد نجمت عن هذا النهج نزعة قوية لتعميم الاتهامات، وضرب ثقة السوريين بعضهم ببعض وبأنفسهم، ولجلد الذات وسيلة للتحرّر من عقدة الذنب الذي يمثله الفشل في تحقيق الأهداف المنشودة، وفي النهاية التباري في التشكيك في أمانة الأفراد ونزاهتهم وإخلاصهم. بل تجاوز الأمر ذلك إلى التشكيك في وجود شعبٍ سوريٍّ بالمعنى البسيط، أو هوية سورية يمكن الاستناد إليها، لإعادة لملمة أشلاء الدولة والمجتمع الممزّق وإحيائهما.
ولعل التشكيك بالهوية الوطنية السوري، ينطلق من حالة اليأس التي أصابت وتصيب الكثير من النخب في لحظات الانتكاس والهزيمة، وهو ما عبر عنه (عبد الله العروي) عندما قال ” إذا انتهى ماض جليل إلى حاضر ممقوت يفقد الماضي كثيرًا من جلاله، بسبب ذلك الإخفاق، لا في أعيننا فقط، بل في ذاته وماديته ولحمته”. فهل ندرك ذلك قبل فوات الأوان؟ وهل يمكن أن نتخطى كل منعرجات الفكر السياسي المُفوَّت؟
المصدر: المدار نت