رياض معسعس
منذ بداية الثورة إلى الآن لم تتوقف التطورات المتلاحقة التي تدخل سورية شيئا فشيئا وبخطوات ثابتة وسريعة في ما يشبه استعمار جديد» neocolonialism « بعد مئة عام من سايكس بيكو، من خصائصه أنه متعدد الدول والغايات بواجهة مساعدة النظام القائم في القضاء على « الإرهاب « أو بمفهوم آخر على المعارضة المسلحة من ناحية وتهميش المعارضة السياسية من ناحية أخرى، والسيطرة على القرار السياسي من جهة، وعلى موارد البلد الاقتصادية ورهن مقدراته بعقود طويلة الآجل، من جهة ثانية، وبناء القواعد العسكرية والبحرية.
الشمال الشرقي من الخريطة السورية
وهذا يخص كل من روسيا، وإيران، وأمريكا، وتركيا. فكل دولة من هذه الدول بات لها مرقد أكثر من «عنز» في الأراضي السورية. فواشنطن تحتل تحت مسمى محاربة تنظيم الدولة الشمال الشرقي من الخريطة السورية بتحالفها مع الأكراد، وإيران تحتل مع حزب الله شريط الحدود السورية اللبنانية، وريف دمشق، وبعض المناطق الأخرى المتفرقة، وتركيا تسيطر على منطقة إدلب، أما روسيا فتسيطر على قاعدتين: عسكرية في حميميم، وبحرية في طرطوس.
وإذا اقتصرنا اليوم على الوجود الروسي فإننا نجد إذا بحثنا في تاريخ العلاقات السورية الروسية أن سورية لم تكن يوما روسية الهوى. فعندما كانت سوريا تحت السلطنة العثمانية كانت بطبيعة الحال تتبع سياساتها الخارجية والمعادية لروسيا العدو اللدود للسلطنة وقد شارك عشرات الالاف من السوريين في حرب القرم و»السفر برلك» في الحرب العالمية الأولى، وعندما انتقلت السيطرة إلى فرنسا بعد هزيمة السلطنة وبدء الانتداب الفرنسي، كانت فرنسا هي التي ترسم علاقات سوريا الخارجية.
في العام 1946 عام الاستقلال كان بداية لنسج علاقات سوريا الخارجية، وكانت أقرب إلى الولايات المتحدة منها إلى الاتحاد السوفييتي خاصة بعد أن كانت موسكو أول من اعترف بقيام دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية. لكن التحول الملفت كان بعد حرب السويس في العام 1956 وقيام الوحدة وتسليم السلطة للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي اتجه إلى موسكو لبناء السد العالي وشراء الأسلحة التشيكية.
منظومة صواريخ سام
وتوطدت العلاقات السورية الروسية بعد حرب 1967 حيث زودت روسيا الجيش السوري بمنظومة صواريخ سام لمواجهة الطيران الإسرائيلي الذي كان مسيطرا على. الأجواء السورية. وتم أيضا توقيع اتفاقية دفاع مشترك لمدة عشرين عاما، والسماح لها بناء قاعدة بحرية في طرطوس. وهذه الاتفاقية نفسها التي أبرمت مع بعث العراق، لكنها لم تفعل أبدا رغم خوض العراق الحرب مع إيران (دولة حليفة لروسيا ايضا) والحرب مع أمريكا وحلفائها ومنهم النظام السوري الذي فضل ان يلتحق بالتحالف من أن ينصر العراق او يلتزم الحياد.
وبقيت العلاقات السورية الروسية تراوح مكانها، وخاصة بعد سقوط جدار برلين، وتوجه سوريا أكثر غربا. لكن الثورة السورية قلبت الأمور رأسا على عقب، إذ عندما شعر النظام السوري أنه على وشك السقوط واهتزاز أركانه بعد ضربات المعارضة وسيطرتها على أجزاء كبيرة من سوريا، تذكر هذا النظام حليفه القديم فاستنجد به واستغاث، وقبل بكل الشروط التي وضعتها موسكو لتدخلها العسكري ضد المعارضة، (هذه الشروط بقيت طي الكتمان ولكن الظاهر يشي بالباطن).
قاعدة عسكرية جوية
ومنها بناء قاعدة عسكرية جوية في حميميم، تحسين القاعدة البحرية في طرطوس، تجربة كل الأسلحة الروسية في هذه الحرب ( والتي راح ضحيتها الآلاف من المدنيين والأطفال بالقصف الروسي على مناطق المعارضة)، والسيطرة على مخزون الفوسفات السوري ففي تقرير كشفته صحيفة فايننشال تايمز تحدثت الصحيفة عن شركة يديرها صديق فلاديمير بوتين غينادي تيموشينكو والتي حصلت على عقد استثمار في مجال الفوسفات، وأن الجنود الروس يسيطرون على مصنع الأسمدة في حمص الذي يشكل العنصر الرئيسي في صناعة الفوسفات التي تعتبر سورية من أكبر الدول المنتجة لهذه المادة، وإدارة مرفأ طرطوس الذي تنطلق منه السفن المحملة بصخور الفوسفات. وتقول الصحيفة: « أن تجارة الفوسفات السورية تعد «مشبوهة»، لأن أرباحها عادة ما كانت تنتهي بيد نظام الأسد، أما الآن فهي أصبحت بيد شركة «تيمشنكو» الموضوعة على قائمة العقوبات الأمريكية بسبب «المساعدة المادية» التي قدمتها للغزو الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014.
وأكدت الصحيفة» أن الشركات تتحايل على العقوبات الغربية وتقوم ببيع الفوسفات السوري كمنتج لبناني رغم أنه يعد بلدا غير منتج للفوسفات، مشددة على أن حوالي 6000 طن من الفوسفات صدرت إلى الخارج عبر ميناء طرابلس اللبناني في شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو» ومعدلات التصدير السنوي تقدر بحوالي 450 ألف طن. هذا على مستوى الفوسفات فقط أما فيما يتعلق بالمنتجات الأخرى النفطية والزراعية فلا يعلم عنها الكثير. ولكن ما هو أكيد أيضا أن موسكو أمسكت بالقرار السياسي وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع تركيا والمعارضة المسلحة، وإيران، وإسرائيل، والولايات المتحدة.
التلاعب بالمعارضة
هذا ما يفسر كيف نجحت موسكو بوأد كل قرارات الأمم المتحدة وأهمها قرار جنيف 2254 وكيف ميعت، وتخطت، بميكيافيلية لا يتقنها سوى الروس بالتلاعب بالمعارضة في أستانة وسوتشي وسياسة المناطق الآمنة التي لم تكن آمنة أبدًا وانتهت فيها المعارضة بتسليم أسلحتها واللجوء إلى إدلب « المصيدة» لتصفيتها نهائيا بالإغارة عليها بكل أنواع الأسلحة الفتاكة وحتى المحرمة منها، وتهجير مئات الآلاف الذين هجروا أيضًا في وقت سابق من ديارهم في الغوطة، وحوض بردى وسواهما.
فكيف يمكن اليوم إخراجها من المياه السورية الدافئة التي كانت تنتظرها منذ مئات السنين؟ أكان من قبل المعارضة، أم من قبل النظام حتى لو أراد ذلك؟ التاريخ يعيد نفسه اليوم بآليات أخرى.
المصدر: القدس العربي