الياس خوري
بغداد تشتعل بالمظاهرات، عراق «أنشودة المطر» يصرخ بالجوع، وينتظر مع بدر شاكر السيّاب مطر الحرية. المحللون عاجزون عن فهم ما يجري، وخطاب المؤامرات الذي صاحب انتفاضات الشعوب في العالم العربي يحتلّ اللغة الميتة.
لغة صارت قبرا، والناس في الشوارع يبحثون عن لغتهم المصبوغة بالغضب والدم، وعن حقهم في الحياة والكرامة.
حين نستحضر العراق نرى السيّاب بجسده النحيل وشعريته المائية، ونتذكر الجواهري، ويبرز صوت جبرا إبراهيم جبرا الفلسطيني الذي صار عراقيا بالتبني، وكتب رواية العراق حين كتب حكايات القدس وبيت لحم.
لكنني اليوم، وسط صرخة العراق، أريد أن أروي عن كاتب عراقي منسيّ، مات في الأسبوع الماضي اسمه شمعون بالاص.
كان شمعون صديقي، وأنا هنا أستخدم كلمة صديقي بشكل مجازي، فأنا لم ألتق الرجل سوى ثلاث مرات في حياتي في نيويورك وجنيف. ومنذ لحظة لقائنا الأولى عرفت أن شمعون كان صديقي من زمان.
كان شمعون مواطنا عراقيا، عاش كارثة اليهود العراقيين بالصهيونية التي دمّرت حياتهم عبر تفجيرات نظّمها الموساد في أحيائهم ودور عبادتهم، وبالنظام العراقي الذي باعهم لإسرائيل عبر قانون مريب أصدرته حكومة توفيق السويدي في العراق سنة 1950 وعرف باسم «قانون إسقاط الجنسية».
وجد اليهود العراقيون أنفسهم يُشحنون كالأغنام في طائرات لها مسار واحد هو مطار اللد، وهناك عاشوا الذلّ والهوان في مخيمات عرفت باسم «المعبروت». شمعون بالاص الذي كان مناضلا في الحزب الشيوعي العراقي، هُجّر إلى إسرائيل، وكتب تجربته في معسكرات اللجوء التي بناها الصهاينة. فهو منذ روايته الأولى التي كتبها بالعربية ثم ترجمها إلى العبرية «ها معبراه» (1964)، أعلن هويته، وعاش طوال حياته عراقيا عربيا منفيا في إسرائيل.
تجربة شمعون تلتقي بتجربة كاتب يهودي آخر اسمه سمير نقّاش، هُجّر هو أيضا إلى إسرائيل، وبقي عراقيا حتى الموت، وكتب بعربية بغداد جميع رواياته، معلنا ارتباطه بجذوره العراقية. ففي روايته «نزولة وخيط الشيطان» كتب على لسان بطل الرواية يعقوب بن عمّام صارخا: «إني يهودي، لكني لست بخائن… كيف أخون أرضا ممتزجا بثراها رفات آبائي وأجدادي؟!».
حكاية شمعون بالاص مع هجرته تستحق أن تُروى، جاء إلى إسرائيل مُرغما تاركا وراءه بداياته الأدبية في بغداد، وبدأ حياته بالكتابة في جريدة «الاتحاد» باللغة العربية. روى أن كتاب طه حسين «الأيام» كان رفيقه، وأنه ابن الثقافة العربية. ولعل إحدى أكثر لحظات حياته صعوبة كانت قراره بالانتقال إلى الكتابة بالعبرية، وكيف شهدت روحه صراعا مدوّيا بين لغتين، وكيف انتهى هذا الصراع بأن حوّل هذا الكاتب عبريته إلى جسر للثقافة العربية.
بقي شمعون طوال حياته خارج التيار الرئيسي في الأدب الإسرائيلي، كان أقرب إلى يوسف إدريس منه إلى عاموس عوز، وعاش في الهامش المضيء، ولم يخن مرآته العربية والعراقية، فوجد نفسه في إسرائيل وهو يتشارك مع الفلسطينيين ألمهم، مازجا الألمين العراقي والفلسطيني في تجربة أدبية وإنسانية فريدة.
التقيته في نيويورك في ندوة أعدّها صديقنا المشترك الشاعر أمييل ألْكَلاي، حين نظّم قراءات لشمعون بالاص وخوان غويتسولو وكاتب هذه السطور، في جامعة نيويورك. تمّ هذا اللقاء عام 2002، كنت معجبا بأدب شمعون وبمواقفه، لكن الإنسان الجميل الدمث المتواضع استحوذ على قلبي.
أراد ألْكَلاي من ذلك اللقاء أن يكون استعادة لأندلس ثقافية متعددة نرنو إليها. لكن شمعون نقل مناخات اللقاء من الأندلس إلى فلسطين. فلسطين هي التحدي، فوسط الهمجية الصهيونية يبزغ حلمنا، حلم فكرة فلسطين التي كانت وستبقى تحدي الحرية للعبودية، وتحدي التعدد للعنصرية وتحدي الحق لتاريخ استولى عليه الطغاة.
وفي لقاء ثانٍ نُظم بعد ثلاث سنوات في نيويورك أيضا، كان عليّ أن أقدم شمعون، فقدمته بصفته كاتبا عراقيا يعيش في المنفى الإسرائيلي، التفت الرجل إلي بابتسامة الرضا، وقال: «هذا كلام دقيق، فأنا ولدت عراقيا وسأموت عراقيا».
هذا العراقي الذي حمل بغداده إلى لغة لم تكن لغته، عمل أستاذا جامعيا يدرّس الأدب العربي، وتابع كتابة رواياته التي دارت أحداثها في مناخات عراقية وعربية، كأن العراق كان معششا في قلبه وروحه.
من قال إن المجتمع يعطي الكاتب مكانه ومكانته؟
مكان الكاتب كلماته، ومكانته رؤاه، وسيرته هي سيرة أبطال رواياته. عاش شمعون بين مدينتي تل أبيب وباريس، في باريس كتب رسالة الدكتوراه عن «الأدب العربي في ظل الحرب»، كما كتب العديد من أعماله الأدبية، وفي تل أبيب عاش في عزلة أدبية، لم يبددها سوى إصراره على الكتابة.
إنه اليهودي العربي، بحسب قصيدة الشاعر المغربي اليهودي سامي شالوم شطريت، وهو منبوذ كبطل روايته «المنبوذ». تقمّص شخصية المناضل الشيوعي المصري هنري كورييل في روايته «الشتاء الأخير»، وكتب حكاية يعقوب صنّوع في رواية «سولو».
وعندما حاولت، مع مجموعة من الأصدقاء، فتح أبواب ثقافتنا لاستقبال أبنائها اليهود العرب، وُوجهنا بسيل من الاتهامات والتهديدات والشتائم.
كان ذلك عام 1998، حين نظّم مسرح بيروت، الذي كنت مديره الفني، مجموعة من الأنشطة الثقافية في الذكرى الخمسين للنكبة، تحت عنوان «50 نكبة ومقاومة»، دامت الأنشطة التي تضمنت محاضرات وعروضا سينمائية ومسرحيات وأمسيات شعرية ومعارض مدة ثلاثة أشهر. كانت بيروت تستعيد صوتها في وجه استبداد النظام السوري ومحاولاته وأد حريتها. قررنا أن نختتم بندوة يشارك فيها مثقفون يهود عرب، ودعونا إبراهيم السرفاتي ونعيم قطّان وسليم نصيب، وطلبنا من شمعون بالاص أن يكتب شهادته؛ لأنه كان من المستحيل استقباله في بيروت لأنه يحمل الجنسية الإسرائيلية.
وسط مناخات التهديد والكراهية، طلبنا من أصدقائنا المدعوين إرسال كلماتهم، واعتذرنا عن استقبالهم بسبب عجزنا عن حمايتهم.
كان مشهد قاعة المسرح مهيبا، خشبة وضعنا عليها كراسي فارغة، علامة الغياب القسري، ثم تناوبت مجموعة من المثقفين اللبنانيين على قراءة نصوص الغائبين.
يومها، عبق فضاء المسرح بالتحدي والحب، وعشنا تجربة الغياب الذي فرضته الصهيونية والأنظمة العربية المتواطئة، واستعدنا جزءا من ثقافتنا العربية الذي سُلخ عن لغته الأم.
المصدر: القدس العربي