د. أحمد حمّود
رغم حملات التشكيك والتيئيس والإرعاب والحروب المدمّرة، تتوالى الدلائل لتؤكد أن نار محمد البوعزيزي أخرجت المارد الشعبي من القمقم ودشّنت مرحلة جديدة واعدة مهما تكاثرت وتعقدت العراقيل وتعدد الأعداء وطال الزمن. وهكذا مرةً تلو الأخرى تؤكد القوى الشعبية العربية أنها لن تستسلم ولن تتراجع في مسيرتها باتجاه الحرية والكرامة والديمقراطية والعيش الكريم مهما كانت التضحيات ومهما غلا الثمن. فبعد انطلاق انتفاضات السودان والجزائر، ها هي الانتفاضة الجديدة في العراق تقض مضاجع أعداء الخارج وحلفائهم أركان نظام الاستبداد والفساد.
ورغم الخصوصيات الوطنية لكلّ بلد، فإن الواقع الراهن في المشرق يتميز بسِمات إقليمية أساسية مشتركة لا يصح اهمالها أو تجاهلها، ومنها بشكل خاص الطبيعة الواحدة لمعارك المواجهة في سوريا والعراق ضد قوى الثورة المضادة الخارجية والداخلية. وهذا يدفع لتوجيه دعوة في ختام هذا المقال الى كل قوى التغيير في المشرق، بعد ان تم توجيهها في “ملتقى العروبيين السوريين الثالث” الذي انعقد في باريس منتصف الشهر الماضي.
١- إن الثورة كعمل انقلابي لا تغيّر، وإنما يمكنها أن تفتح الباب للتغيير ولإطلاق دينامية سياسية اجتماعية (إذا ما تم استثمارها بشكل سليم مناسب) تهيّئ الظروف لمسار إصلاحي واسع وعميق (إذا ما تواصل وتوفرت له قيادات كفوءة وذات مصداقية) يؤدي الى التغيير الجذري الشامل.
٢- في النظر والتنظير والتحليل والتركيب، ان استعمال منهج الدورة الكاملة المتكاملة يفرض نفسه، من الكلّ الى الجزء وبالعكس، أي من العروبي (في الإطار العالمي) الى الوطني/القطري وبالعكس. وعليه لا يصحّ الانتظار والمراهنة على انتصار كامل لأي حراك وطني في أي بلد على حدَة، إذا لم يحصل في إطار حراك عربي واسع وظروف عربية ثورية مواكبة ومؤاتية، تتبادل فيها قوى التغيير التنسيق والدعم والحماية والمساعدة والتعاضد.
٣- لننظر مثلاً الى واقع أن كلّ طرف خارجي لديه خطة واحدة شاملة لكلّ المنطقة، رغم تنوع أدواتها ووسائلها وأشكال تنفيذها، من أميركا الى روسيا الى اسرائيل الى إيران الى تركيا… لكن بالمقابل ليس هناك أيُّ خطة عربية ولا أي قطبٍ جاذب ذي مشروع عربي للمواجهة. أليس من المفارقات أن تنظيم داعش الإرهابي ألغى الحدود بين سوريا والعراق في حين أن قوى (المقاومة) بقيت قطرية ومجزّأة ولم تستطع أقلُّها التنسيق بينها رغم وحدة الأعداء ؟
٤- لننظر أيضاً الى درسٍ أساسي يبدو أنه أُخِذَ بالاعتبار في السودان والجزائر ألا وهو أن من شروط نجاح الحراك شمولَه لكل أرجاء الوطن وفي نفس الوقت، وعملَه بشكل متواصل على تشتيت قوى النظام وأجهزته الأمنية وعلى إشغالها في كل المواقع بدون هوادة. بينما في سوريا أو في العراق، نجح النظام وحلفاؤه في حشد قواهم وتحريكها بشكل كانوا يستفردون فيه بالقوى الثائرة ويعزلونها ويعزلون مناطقها لضربها واحدة بعد الأُخرى.
٥- لكن رغم ذلك، منِ المنتصر ومنِ المهزوم، مثلا في سوريا؟ صحيح أن القوى الثائرة لم تنتصرْ إذ عادت سوريا الى مربع ما قبل الاستقلال وانتقلت من حالة الثورة الى واقع الاحتلال. لكن النظام أيضاً لم ينتصرْ إذ يكفي أن ثمة قطيعة كاملة كسرت مسارَ استمرار النظام الذي بناه حافظ الأسد وكشفت حقيقته وأسقطت شرعيته. ثم أيُّ انتصارٍ حقّقه ذلك المستبد القابع في قصره بحماية المحتلّين وميليشياتهم، بينما نصف الشعب موزعٌ بين اللجوء والسجون والاختفاء والقبور؟ لكن لا بد من الاعتراف بفداحة الخسائر.
٦- إن “المثاليين” والمنظّرين الجالسين على مقاعدهم الوثيرة والتعجيزيين والمغرضين لا يفتأون يهاجمون القوى الثائرة ويطالبونها بتوحيد قواها، متجاهلين الواقع في الماضي والحاضر… من الممكن أن تستطيع هذه القوى الثائرة، في ظروف ذاتية وموضوعية مناسبة، بناء تشكيل جبهوي ناجح – وهذا مطلوب وضروري – لكنها من الصعب جدّاً أن تتوحد لأسباب عديدة ذاتية وموضوعية، داخلية وخارجية لا مجال هنا لتناولها.
٧- انطلاقاً من الواقع كما هو وبحدود ما يوفره، من الضروري أن يكون لدى قوى التغيير الجرأة والشجاعة على الاعتراف بأن ثمة أسباب وظروف عديدة ومُرَكّبة (بما فيها أن العالم كله تحالف ضد الشعبين العراقي والسوري) أدّت الى عودة الاحتلال بل الغزو، أميركي/إيراني في العراق وروسي/إيراني في سوريا بالإضافة إلى التغلغل الإسرائيلي في البلدين. وعليه فإن المواجهة تقتضي العودة الى المربّع الأول، مربّع التحرر والتحرير من الاحتلالات، مما يستدعي ضرورة تأسيس وإطلاق حركة تحرير وطنية جامعة.
٨- من هنا يأتي السؤال التالي وهو سؤال واقعي وليس تعجيزي ولا تيئيسيّ: هل يمكن لأي طرف أو فريق أو حزب أو تيار وطني وحده تولي هذه المهمّة، أي أن يشكّل وحده رافعة لحركة تحرير وطنية في سوريا أو في العراق أو في كليهما؟ وإذا كان الجواب نعم، فمن هو وكيف يمكنه ذلك؟
٩- إن من أهم ما تتّصِف به الاوضاع الراهنة هو تكاثر المشاريع الخارجية المعادية وغياب خطة أو مشروع مواجهة عربي، خاصةً عبر استمرار تغييب دور مصر كمركز أو قاعدة استقطاب عربي (لأسباب عديدة أهمها التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا)، ممّا يحرّض على توجيه الدعوة الى قوى التغيير والثورة في سوريا والعراق بل ولبنان من أجل العمل الفوري على تشكيل وإطلاق “حركة تحرير وطنية عربية مشرقية.” حركة تتميز بأنها ديمقراطية جامعة قائمة على تنوع وتكامل القوى وتعدد أشكال وخطط العمل، كما تتميز باعتمادها على الحاضنة الشعبية وبعدم ارتهانها المالي للأنظمة وللخارج، وذلك كفعل معاكس أو على الأقل كخطوة تأسيسية لفعل معاكس في مواجهة الاحتلالات القائمة والغزاة القدامى والجدد.