أمين العاصي ــ جابر عمر
في تطور مفاجئ، منح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ليل الأحد الاثنين، الضوء الأخضر للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال اتصال هاتفي بينهما، بتنفيذ العملية العسكرية التي كانت تخطط لها تركيا داخل الحدود السورية، والتي تأجلت لأشهر طويلة بسبب الخلافات بين أنقرة وواشنطن حول طبيعة المنطقة “الآمنة” المقرر إنشاؤها لجهة عمقها وطبيعتها فضلاً عن التباينات بين الطرفين بشأن مصير الوحدات الكردية التي دعمتها واشنطن طوال السنوات الماضية.
قرار ترامب الذي شمل سحب القوات الأميركية من الحدود، والذي أتبعه بسلسلة تغريدات برر فيها موقفه وأظهر من خلالها رغبة بالانسحاب كلياً من سورية على غرار ما أعلن في ديسمبر/كانون الأول 2018 قبل أن يضطر للتراجع، يعكس تحولاً مهماً في السياسة الأميركية حيال الوضع في سورية والعلاقة مع تركيا. ومن شأن تداعيات هذا التحول، الذي ظهر تباين في واشنطن تجاهه بين مؤيد لقرار ترامب ومحذر منه، أن تساهم في تبدل موازين القوى في سورية والمنطقة، الأمر الذي يتوقع أن يظهر تباعاً أخذاً بعين الاعتبار جملة من العوامل. أول هذه العوامل المسار الذي ستسلكه العملية العسكرية المرتقبة وحدودها تحديداً لجهة ما إذا كانت ستحمل صداماً مباشراً بين الجيش التركي و”قوات سورية الديمقراطية” (قسد) أم أن هذا الأمر لن يحدث كما يرجح البعض. يضاف إلى كل ذلك، طبيعة الخطوات السياسية والعسكرية للأكراد في الأيام المقبلة وما إذا كانوا يخططون للتوجه نحو النظام السوري للتحالف معه بعد تخلي الولايات المتحدة عنهم والانتقال إلى مرحلة حرب العصابات ضد القوات التركية التي ستتمركز في الداخل السوري ما يجعل الأخيرة عرضة للاستنزاف، وهو ما يبدو أنها تحسبت له من خلال توجهها لإشراك عناصر الفصائل المعارضة السورية التي دفعت لدمجها أخيراً في تأمين المنطقة الآمنة المتوقع إنشاؤها.
كذلك ينتظر أن تتضح تباعاً طبيعة التفاهمات الأميركية التركية وحدودها، سواء في ما يتعلق بملفات سورية العسكرية والسياسية أو بملفات أخرى تخص البلدين. كما يطرح إعلان البيت الأبيض أن الأتراك أصبحوا مسؤولين عن ملف عناصر تنظيم “داعش”، قبل أن يوسع ترامب من مسؤولية الأطراف التي يتوجب عليها “تسوية الوضع” لتشمل تركيا وأوروبا وسورية وإيران والعراق وروسيا والأكراد، تساؤلات حول مصير التفاهمات بين أنقرة من جهة وموسكو وطهران من جهة ثانية، بوصفهما الدول الثلاث الضامنة للوضع في سورية، لا سيما أن التطورات الميدانية لصالح تركيا جاءت في وقت كانت روسيا تعتبر فيه أنها حققت نجاحاً بفرض رؤيتها في ما يتعلق بالحل السياسي تحديداً في ما خص اللجنة الدستورية التي تم الإعلان عن إنشائها أخيراً فيما تتواصل الترتيبات في جنيف لعقد أول اجتماع لها خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الحالي. وفيما أبدت طهران منذ أول من أمس رفضاً للحلول العسكرية، فإن روسيا ومع تسارع التفاهمات الأميركية – التركية، اضطرت للتخلي عن سياسة الصمت التي كانت تتبعها منذ أيام. وفي السياق، قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إنه ينبغي الحفاظ على وحدة الأراضي السورية. وأشار إلى أن موسكو تعلم أن أنقرة تشاطرها نفس الموقف إزاء وحدة الأراضي السورية. وتابع “نأمل أن يلتزم رفاقنا الأتراك بهذا الموقف في جميع الظروف”. وكرر موقف موسكو بضرورة رحيل كل القوات العسكرية الأجنبية الموجودة بشكل “غير قانوني” من سورية.
في غضون ذلك، لن يمرّ قرار ترامب من دون تداعيات على علاقته بالدول المنضوية في التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، خصوصاً بعدما ظهر أمس موقف للاتحاد الأوروبي يحذر من أي هجوم تركي في شمال شرق سورية لأن “استئناف الأعمال القتالية سيقوض الجهود المبذولة لحل النزاع. كما أن فرنسا طالبت تركيا بتجنب الأفعال التي تتعارض مع مصالح التحالف المناهض لتنظيم “داعش””. وعلى عكس المواقف القلقة، تولى ترامب وأردوغان الدفاع عن موقفيهما. وبرر ترامب، في سلسلة تغريدات، قرار إدارته سحب القوات الأميركية من شمال سورية، معتبراً أنه “آن الأوان” لكي تخرج الولايات المتحدة من “هذه الحروب السخيفة، وغالبيتها قبلية، التي لا تنتهي، وإعادة جنودنا إلى الوطن”. وأعلن أن مواصلة دعم القوات الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة في المنطقة مكلف للغاية. وقال “الأكراد قاتلوا معنا، لكنهم حصلوا على مبالغ طائلة وعتاد هائل لفعل ذلك. إنهم يقاتلون تركيا منذ عقود”. وتابع “سنحارب أينما يكون هناك فائدة لنا، ونحارب من أجل الفوز فقط. سيتعين الآن على تركيا وأوروبا وسورية وإيران والعراق وروسيا والأكراد تسوية الوضع، ومعرفة ماذا يجب عليهم القيام به مع مقاتلي داعش في جوارهم. نحن على بعد 7 آلاف ميل، وسندمر داعش مجدداً إذا اقتربوا منا”.
وجاء موقف ترامب بعد ساعات من تأكيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أمس الاثنين، بدء عملية انسحاب القوات الأميركية من مناطق شرق الفرات في سورية. وأضاف، خلال مؤتمر صحافي في أنقرة قبيل سفره إلى صربيا، إن “عملية انسحاب القوات الأميركية من شمال سورية بدأت، كما أفاد الرئيس ترامب في اتصالنا الهاتفي أمس (الأحد)”. ونقلت وكالة “الأناضول” عنه قوله إن بلاده تدرس ماهية الخطوات اللازمة لضمان عدم فرار عناصر “داعش” من السجون في شرق الفرات.
وقالت مصادر في وزارة الخارجية التركية، لـ”العربي الجديد”، إن “العملية العسكرية المزمعة حتى الآن محدودة، إلى حين عقد القمة بين أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترامب (في نوفمبر). وهناك حذر من أن يكون الضوء الأخضر الأميركي له أبعاد أخرى، ووفقاً لذلك ستكون تركيا حذرة جداً في تقدمها”. وتوقعت مصادر ميدانية، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن يبدأ العمل العسكري خلال ساعات و”حالياً التركيز على تل أبيض ورأس العين”، لكن مسؤولاً تركياً رفيع المستوى قال، لوكالة “رويترز”، إن بلاده ستنتظر على الأرجح انسحاب القوات الأميركية من منطقة في شمال سورية قبل أن تبدأ الهجوم. وأضاف أن الانسحاب الأميركي من منطقة العمليات المقررة قد يستغرق أسبوعاً، وأن أنقرة ستنتظر ذلك على الأرجح لتجنب “أي حوادث”. وأعلن المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، في تغريدة، أن هدف أنقرة هو إنشاء “منطقة آمنة” لفصل الحدود التركية عن “وحدات حماية الشعب” الكردية وإعادة اللاجئين السوريين في تركيا.
وكان البيت الأبيض أعلن، في بيان بعد اتصال بين أردوغان وترامب، أن القوات الأميركية في شمال سورية ستتنحى جانباً وتمهد الطريق لهجوم تركي ضد الأكراد. وقال “قريباً، ستمضي تركيا قدماً في عمليتها التي خططت لها طويلاً في شمال سورية”. وأكد أن “القوات المسلحة الأميركية لن تدعم العملية ولن تنخرط فيها، ولن تتمركز بعد اليوم في المنطقة مباشرة” عند الحدود مع تركيا. وأضاف أن “تركيا ستكون المسؤولة الآن عن جميع مقاتلي تنظيم داعش الذين احتجزوا في العامين الماضيين غداة الهزيمة التي ألحقتها الولايات المتحدة” بالتنظيم. وانتقد البيان “فرنسا وألمانيا وغيرهما من الدول الأوروبية” لعدم إعادة مواطنيها الذين انضموا إلى “داعش” واعتقلوا في شمال سورية. واتفق أردوغان وترامب على عقد لقاء في واشنطن الشهر المقبل للتباحث بشأن “المنطقة الآمنة” في شمال سورية، بحسب ما أفادت الرئاسة التركية. وفي الوقت نفسه، قال ترامب إنه إذا فعلت تركيا أي شيء يعتبره “متجاوزاً للحدود، فسيدمر اقتصادها تماماً”، وسط تحذيرات لمراقبين من أن يكون قرار ترامب أشبه “بهدية مسمومة”، ولا سيما أن العملية العسكرية التي تخطط لها أنقرة “ستتأتى عنها كلفة اقتصادية، وليس من المؤكد في ضوء الانكماش الاقتصادي الحالي في تركيا، أن يكون البلد يملك الموارد” لذلك، على حدّ قول الخبيرة في السياسة الخارجية التركية والأستاذة في معهد “سيانس بو” في باريس، جنا جبور.
وأكدت مصادر محلية، لـ”العربي الجديد”، أن الأميركيين انسحبوا بالفعل من قاعدة لهم قرب قرية المنبطح شمال غربي تل أبيض، مشيرة إلى أن الأميركيين انسحبوا أيضاً من قاعدة بالقرب من تل فندر واتجهوا نحو قاعدة أميركية في منطقة عين عيسى. وقال مسؤول أميركي، لوكالة “رويترز”، إن انسحاب القوات الأميركية سيقتصر في بادئ الأمر على جزء من الأرض قرب الحدود التركية كانت أنقرة وواشنطن قد اتفقتا على العمل معاً لإقامة “منطقة آمنة” عليها. وأضاف أن الانسحاب من المنطقة لن يشمل الكثير من القوات بل ربما العشرات فقط.
وفي أول رد فعل غاضب على الانسحاب الأميركي، انتقدت “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) الجانب الأميركي الذي سحب قواته من المناطق الحدودية السورية التركية في خطوة تعد بمثابة ضوء أخضر للجيش التركي للدخول إلى الأراضي السورية. وقالت “القيادة العامة لقوات سورية الديمقراطية”، في بيان أمس الاثنين، إن “القوات الأميركية لم تف بالتزاماتها وسحبت قواتها من المناطق الحدودية مع تركيا. وتركيا تقوم الآن بالتحضير لعملية غزو لشمال وشرق سورية”. وأضافت أن “هذه العملية العسكرية التركية في شمال وشرق سورية سيكون لها الأثر السلبي الكبير على حربنا على تنظيم داعش، وستُدمر كل ما تم تحقيقه من حالة الاستقرار خلال السنوات الماضية”. وشددت على “أننا لن نتردد لحظة واحدة في الدفاع عن أنفسنا”، مضيفة “ندعو شعبنا بجميع أطيافه من عرب وأكراد وسريان آشوريين لرص صفوفه، والوقوف مع قواته الشرعية للدفاع عن وطننا تجاه هذا العدوان التركي”.
من جانبه، قال القيادي في “الجيش الوطني” السوري مصطفى سيجري، في حديث مع “العربي الجديد”، إن “الجيش الوطني” التابع للمعارضة السورية “سيكون رأس حربة في العمليات العسكرية المرتقبة ضد المليشيات الإرهابية في منطقة شرق الفرات شمالي سورية”. وعد سيجري بيان البيت الأبيض والانسحاب الأميركي من القواعد في تل أبيض ورأس العين “ضوءاً أخضر” للعملية العسكرية التركية المرتقبة ضد المليشيات في المنطقة. وأكد أن “الجيش الوطني أنهى كل استعداداته للبدء بالعملية العسكرية، ومحاور بدء العملية يعود تحديدها إلى غرفة العمليات المشتركة بين تركيا والجيش الوطني، وسوف يتضح ذلك خلال الساعات المقبلة”.
لكن مصدراً مطلعاً في المعارضة السورية أكد أن فصائل الجيش الوطني “لن تدخل كلها إلى شرق نهر الفرات”، مشيراً إلى أن “قوام القوة التي ستدخل مع الجيش التركي من أبناء المنطقة فقط”. وأكدت مصادر مطلعة، لـ”العربي الجديد”، أن هناك خلافا داخل الإدارة الأميركية حول العملية العسكرية في شرق نهر الفرات، مشيرة إلى أن فريقاً في الإدارة يرفض رغبة ترامب بإعطاء الأتراك ضوءًا أخضر للسيطرة على جانب مهم من المنطقة لتبديد مخاوفهم من محاولات إقامة إقليم ذي صبغة كردية في شمال شرقي سورية، يعتبره الأتراك خطراً على أمنهم القومي. وأشارت المصادر إلى أن الفريق المعارض للعملية يدفع باتجاه منع الأتراك من الدخول إلى العمق السوري في شمال شرقي البلاد. وأشار المصدر إلى أن تهديد الأكراد بتسليم مدينة منبج غربي نهر الفرات إلى قوات النظام “عقّد الموقف أكثر”، مضيفاً أن “قوات سورية الديمقراطية يمكن أن تستخدم كل الأوراق لمنع العملية ومنها تسليم منطقة شرقي الفرات إلى النظام أو الاستثمار بورقة مسلحي داعش الذين بحوزتها حتى الآن”. ولطالما حاولت “قسد” التلويح بورقة التنظيم من أجل الضغط باتجاه تكبيل أيدي الأتراك ومنعهم من اقتحام منطقة شرق نهر الفرات التي انتزعتها هذه القوات من التنظيم بمساعدة من التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة. وذكرت شبكة “سي أن أن” أن “قسد بدأت بسحب قوات حراسة سجناء داعش لمواجهة الغزو التركي”.
من جانبه، أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان أن “قوات سورية الديمقراطية” والمجالس العسكرية شرق الفرات، استنفرت قواتها بعد سحب القوات الأميركية بعناصرها من الشريط الحدودي مع تركيا، ضمن المنطقة الواقعة ما بين مدينتي تل أبيض بريف الرقة ورأس العين بريف الحسكة. وأشار إلى أن “الفصائل الموالية لتركيا، والتي تنشط في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون بريف مدينة حلب، بدأت بالتحرك نحو الأراضي التركية للوصول إلى الحدود السورية في الجهة المقابلة لمنطقة شرق الفرات”، مؤكداً أن هذه الفصائل “تلقت أوامر من الجانب التركي برفع الجاهزية والاستعداد التام في إطار العملية العسكرية التركية المرتقبة شرق الفرات”. وتحدثت مصادر مقربة من “وحدات حماية الشعب” الكردية، التي تشكل الثقل الرئيسي في “قسد”، عما سمّتها بـ”لعبة أميركية قذرة لتسليم مدينتي تل أبيض ورأس العين للجانب التركي”.
ولا يزال الغموض يلف أبعاد العملية التركية المرتقبة، لكن من المرجح، وفق الحشد العسكري التركي، أن تبدأ العملية انطلاقاً من مدينة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي، وصولاً إلى مدينة رأس العين في ريف الحسكة بطول أكثر من 80 كيلومتراً وبعمق لا يقل عن خمسة كيلومترات، وهي المنطقة التي شهدت تسيير دوريات مشتركة بين الأتراك والأميركيين في الآونة الأخيرة. ومن الواضح أن “الوحدات” ومجموعة الأحزاب الكردية التي تنضوي تحت عباءة “الإدارة الذاتية” تشعر أن الإدارة الأميركية في طريقها للتخلي عنهم ووضعهم وجهاً لوجه أمام الجيش التركي المتحفز للقضاء على الخطر الكردي الآتي من سورية.
وحاولت “الوحدات الكردية”، الذراع العسكرية لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” نسج خيوط تحالف مع الأميركيين والغرب عموماً على أساس محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم “داعش”، حيث تحولت “قوات سورية الديمقراطية” منذ أواخر العام 2015 إلى ذراع برية للتحالف الدولي، واستطاعت القضاء على التنظيم في منطقة شرقي الفرات وفي منبج غربه. وفي هذا الصدد، يرى الباحث في جامعة “أكستر” البريطانية حمزة المصطفى، في حديث مع “العربي الجديد”، أنه “لم يكن هناك تحالف بالمعنى الأصلي للكلمة بين الأكراد السوريين وأميركا”، مضيفاً “لكن شراكة بنيت على غرض وظيفي هو محاربة تنظيم داعش دون مطالب سياسية مقابلة. هذه الشركة استفادت من تدهور العلاقات الأميركية التركية، ومن الخطط الأميركية السابقة لبقاء طويل الأمد في سورية”. وأشار إلى أنه “من المبكر لأوانه مقاربة الأمور من منظور التخلي عن أحد لصالح طرف آخر”، مضيفاً “الولايات المتحدة على ما أعلنت أنها لن تدعم العملية التركية، وبالتالي لن يكون هناك ضمانة وحماية للمنطقة الآمنة التي ترغب تركيا بإقامتها. وعلى هذا الأساس، فإن التلاقي المصلحي الأميركي مع الوحدات الكردية سيستمر إذا قررت واشنطن البقاء في سورية. أما إذا قررت الانسحاب، فإن هذا يظهر أن العلاقات بين الدول تبقى أقوى من العلاقات مع فاعلين غير دوليين”.
المصدر: العربي الجديد