محمود الوهب
نعم، ليس دفاعاً عن تركيا، بل انتصاراً لسورية التي تستبيح أراضيها اليوم جيوش متعددة الوجوه والقوميات، وتتنوع بأساليب الفتك بالشعب السوري.. نعم، ليس دفاعاً عن أحد، بل كشفاً لهذه المهزلة البكائية التي يقوم بها العرب، فمن السعودية إلى مصر إلى جامعة الدول العربية برمتها إلى بعض البلدان الأوروبية، والتصريحات تتوالى، والبيانات تصدر وتوزّع، ويجري تبادل الآراء والمشاورات بشأن عقد اجتماعات عاجلة للهيئات العربية والدولية. وبالفعل، اجتمع وزراء الخارجية العرب، فنشجوا وشجبوا ودانوا ولوّحوا بمعاقبة تركيا التي خرجت على القوانين الدولية، وهاجمت جارةً لها من دون سابق إنذار، وكأنها الدولة الوحيدة التي تتدخل اليوم، أو منذ زمن، في الشأن السوري، بل كأنَّ سورية، وحكومتها، وشعبها، قد ناموا في المساء آمنين مطمئنين، واستيقظوا في الصباح ليفاجأوا بعدوان آثم تقوم به دولة أجنبية لتعبث بحرّيتهم ومقدّراتهم.. وكأنَّ سورية ليست مستباحة بفعل حاكمها، وأعوانه، منذ تصدّى لشعبه أمام نظر العالم أجمع بالرصاص الحي، ثم بالبراميل المتفجرة، وبعدئذ بالكيميائي، وبالروس والإيرانيين، ولا يزال على مدى ثماني سنوات، جرى خلالها ما جرى للسوريين من ويلات.. مليون شهيد وضعفهم من الجرحى والمعوّقين، ومئات ألوف المعتقلين والمفقودين، إضافة إلى ثلاثة ملايين بيت مهدَّم، وعشرة ملايين سوري، على الأقل، بين مهجر ونازح غير متجانسين. ولا مقياس لدينا نقيس به حجم الأوجاع والأحزان المستمرة إلى أزمان قادمة طويلة. ذلك كله ولم يتنطّع أحد من العرب، ليتخذ الموقف الجاد المثمر لإيقاف ذلك الخراب. لا بل هيّج بعضهم وجيَّش وموَّل، وقطع عهداً على نفسه أن يسقط الأسد ونظامه، وها هو الآن يهيئ الظروف لإعادته إلى حضن جامعته، وكأن شيئاً لم يكن..!
وللعلم، كثيرون مهجّرون بسبب حزب العمال الكردستاني الذي يتباكى عليه العرب، متجاهلين أنه احتل مناطق شاسعة تقارب ثلث مساحة سورية بمساعدة الأميركان، ولكن العرب لم يحرِّكوا آنذاك ساكناً. وطبيعي أنهم لم يستقبلوا لاجئاً سورياً واحداً، ومعظمهم قادر على استقبال المهجّرين كلهم، والقيام بأودهم، والاستفادة من طاقاتهم وإمكاناتهم في بناء نهضةٍ شاملة، هم بحاجة إليها، وخصوصا الذين يهدرون المليارات على الأميركان، بمناسبة أو من دونها، كلما حلّت بالاقتصاد الأميركي أيٌّ من نوائب جشع رأس المال وتوحشه، أو تطلّب الحال تأمين وظائف جديدة لرفاهية الأميركان.. أما من استقبل لاجئين من العرب فقد أذاقهم من الذل أكثر مما يمكن لهم أن يعانوه في بلدهم المستباح، فقتل، وعذّب وشحذ عليهم بما يكفي.. بينما تحمّل الأتراك عبء أربعة ملايين لاجئ سوري، وعانى الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) ما عاناه من عنت المعارضة اليسارية (الإنسانية) والقومية، حتى أن بعض أسباب خسارة الحزب رئاسة بلدية إسطنبول في الانتخابات البلدية يعود إلى متاجرة المعارضة التركية بقضية اللاجئين السوريين.
ولكن من هي قوات سورية الديمقراطية (قسد) التي يتعاطف معها العرب؟ دعونا نعرفها وندقق في تركيبتها وفي من رعاها وما غاياتها؟
أولاً: مليشيات قومية كردية، قيادتها تركية الجنسية، تتبع حزب العمال الكردستاني، في جبال قنديل على الحدود العراقية الإيرانية التي تعد معقلاً لهذا الحزب، وهي القوات التي استخدمها الأميركان مرتزقة تحقيقاً لمصالح خاصة بهم، وكان حافظ الأسد قد رعاها في ثمانينيات القرن الماضي، وأغدق عليها، إذ أرادها بعبعاً لتهديد تركيا، لكنه توافق مع زعيمها عبد الله أوجلان على أن لا مشكلة قومية للأكراد في سورية. وأقرَّ أوجلان بأن هدفه تشكيل كيان كردي في تركيا التي تضم أكبر عدد من الأكراد (14 مليون نسمة ونسبتهم إلى مجمل السكان 15%)، أما من تبقوا فوجودهم في العراق وسورية وإيران. وقد سمح حافظ الأسد، وفق اتفاقية أضنة عام 1998، بتعقب الجيش التركي مليشيا “العمال الكردستاني” مسافة خمسة كيلومترات ضمن الأراضي السورية. ولم يكن الحزب آنذاك يحتل شبراً واحداً من الأراضي السورية، كما حاله اليوم، وسوِّيت في الاتفاقية ذاتها مشكلة الحدود بين الطرفين نهائياً، متضمنة تخلِّي الأسد عن لواء إسكندرونة. وطرد أوجلان من سورية. ولكن الحزب عاد مستغلاً الفوضى الحاصلة في سورية، ليحتل عفرين أولاً، ثم ليقضم أراض سورية كثيرة إلى الشرق، ويقيم إقليم “روج آفا”، أي غرب كردستان.
ثانياً: طرح حزب العمال الكردستاني نفسه بديلاً عن الحركة الكردية في سورية، وكان قد مضى على تشكيل أحزابها أكثر من ربع قرن، كما أنه، بوصفه حزبا ماركسيا، طرح نفسه بديلاً عن الشيوعيين السوريين بتلاوينهم كافة، واغتال عناصر منهم ومن أحزاب كردية أخرى..! وقد كرَّمه حافظ الأسد، إذ وضع ممثلين عنه في مجلس الشعب في إحدى دوراته (ثمانية أعضاء، مثل حصة كل حزب في الجبهة الوطنية التقدمية، وقد صال هؤلاء وجالوا في المجلس، ما جرح الكبرياء القومية للبعثيين، فلم يكرّرها “القائد الخالد”)، وبالطبع، لم يكن يسمح بالترشح لأي عضو من حزب كردي آخر. وإذا ما ترشح كردي بعثي، أو مستقل، فلا بد من أن تباركه أفرع الأمن جميعها. ولم يعترف الأسد للأكراد بأيّ من حقوقهم، بما في ذلك حل مشكلة إحصاء أكراد الحسكة، واستبدل بأسماء القرى الكردية أخرى عربية في سورية كلها.
ثالثاً: تصرف حزب العمال الكردستاني في سورية، منذ أخذ يتوسع في سورية بتحالفه مع الأميركان تصرُّف المستعمر تجاه العرب، إذ قتل وسجن وهجَّر وعفَّش، واستولى على أراضٍ ومواش ومواسم زراعية، وحرق مواسم قبل حصادها، ولم يكن بأفضل من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي حاربه تحت إمرة الأميركان.. وحاز كذلك على الثروة النفطية، وباعها إلى تجار في تركيا وسورية.
رابعاً: وحدها مليشيا “قسد” ترفع العلم الإسرائيلي إلى جانب العلم الكردي وصورة أوجلان تركي الجنسية، حيث الأراضي السورية التي تحتلها، ما يفيد بأنَّ ولاءها المستقبلي ليس سورياً. أما إذا كانت قد أكرهت على توقيع اتفاقٍ مع النظام فما ذلك إلا تلبيةً لرغبة الروس الذين لم يعترضوا على ملاحقة الأتراك لهم. ولعلها اتفاقات أستانة، وجوهرها المقايضات التي لا يعرف أحد منتهاها، ولا غاياتها النهائية. وما دخول قوات “الجيش العربي السوري” إلى منبج وعين العرب إلا نوع من حفظ ماء الوجه للنظام الذي لم يعد يملك أي قرار على الأرض السورية، ولكن بقاءه مطلوب روسياً وإيرانياً، وربما دولياً.
خامساً: عمل حزب العمال الكردستاني على التغيير الديمغرافي للسكان، ليتجاوز واقعاً جغرافياً قائماً لا يساعد على انفصالٍ أو فيدرالية، فرحَّل آلافا من سكان المدن والقرى التي احتلها، ومعظمها قرى عربية صرفة. وللمثال، قرى في أرياف إعزاز والباب ومنبج وجرابلس. أما مدينة الرّقة التي تنطوي حديثاً على تنوع سكاني سوري واسع، فلا يشكل الكرد فيها أكثر من 4% إلى 5%، إذ إنهم موجودون في ست عشرة قرية من أصل ثلاثمئة قرية، وهذا هو أسلوب “البعث نفسه”. يشير التوزّع السكاني السوري إلى مسألة في غاية الأهمية، أن ترابط السوريين أكثر عمقاً مما يعمل عليه الانفصاليون، بأشكالهم كافة. وأن حل المشكلات القائمة اليوم بفعل الاستبداد السياسي الطويل لا يستقيم إلا بحكم لا مركزي، يحقّق المواطنة الكاملة من دون أي تمييز كان.
سادساً: التدخل التركي هذا سوف يسرِّع في إيجاد حل للمأساة السورية، وهو في النهاية تثبيت للحق السوري، وليس نفيا له.
والخلاصة من كل ما تقدَّم، إنَّ المواقف في مثل هذه القضايا لا تتجزأ، فإذا ما أراد العرب موقفاً جدّياً، موقفاً يحافظ على وحدة الأراضي السورية، ويساوي بين أطياف شعبها، فلا بد من النظر بعين واحدة إلى المحتلين أجمعين، والدعوة إلى إخراجهم، والتمسّك بقرار مجلس الأمن رقم 2254، بحسب أولوياته التي تنص على تشكيل هيئة حكم انتقالية، تعيد هيكلة الدولة السابقة بكاملها، وتهيئ لانتخاباتٍ ديمقراطيةٍ حرة، وفق دستور يقتلع جذور الاستبداد الذي يفرِّخ الإرهاب آلياً، وتفسح في المجال لتطبيق العدالة الانتقالية، ومحاسبة القتلة من الأطراف كافة، وتعيد أموال الشعب المنهوبة، لعلها تساهم بإعادة إعمار ما دمرَّه المجرمون، وصمت عنه العرب والعالم.
المصدر: العربي الجديد