أحمد مظهر سعدو
ما يجري في محافظة ادلب اليوم شمال غرب سورية، وهذا التصعيد الهمجي الروسي الأسدي، يوحي بالكثير، ويؤشر إلى بداية قد لا تكون حميدة، بشأن مصير الشعب السوري الذي يتجمع داخل أسوار المحافظة الخضراء، ولا يبدو أن هناك أي اهتمام إقليمي ولا دولي لمصائر ما يزيد عن 4 ملايين إنسان سوري مدني، يلاقون الموت يوميًا، والمجازر تلو المجازر. وأمام هذا التخلي (المعولم) عن المسألة السورية والبشر السوريين الذين ينشدون الحرية ليس إلا، في إدلب وما حولها، بل في مجمل الجغرافيا السورية، ويتحدث الكثير من السوريين عن المخرج، ويروم الجميع حول إعادة توحيد الصفوف، إذ لا مخرج سواها ضمن هذه الدراماتيكية التي تنال من السوريين يوميًا، ويسيل الدم السوري جراء القصف فوق رؤوسه.
ويبدو أنه بات من نافلة القول الحديث اليوم عن توحيد قوى الثورة السورية بتلاوينها المتعددة وأطيافها المتباعدة، لكننا نجد أنفسنا وبعد كل ما توالى على سورية والمنطقة، طوال ما يقرب تسع سنوات، من أحداث، وما وقع وانطلق من ثورات بدءً من ثورة تونس مرورًا بمصر وثورتها التي أجهضت، وحال اليمن المستولى على ثورته من قبل الحوثيين، وكذلك أوضاع ليبيا الغارقة في دمائها، ومن ثم الموجة الثانية من الربيع العربي في السودان والجزائر، ثم العراق ولبنان التي مازلت متفاعلة بعد، بل في أوج حراكها الملفت، وصولًا إلى الثورة السورية التي انطلقت في /18/ آذار /2011/ كثورة وطنية ديمقراطية شعبية سلمية من أجل الكرامة وتحقيق الحرية المفقودة، ومن ثم ما جرى بعد ذلك، من لجم الثورة السلمية، وجرها رغمًا عنها إلى العمل المسلح، الذي أدى ضمن موازين قوى مختلة، إلى هذا الدمار “البراميلي” وهذا القتل بالمجان، وسقوط حلب، ثم وادي بردى وريف دمشق، ودرعا وغيرها، وتلك الدماء التي ما زالت تسفك في سورية. وما طرأ من تغيرات على مسارات الثورة، وصعود الارهاب “الداعشي” المنفلت من كل عقال، وما أدى ويؤدي مع عسف وقمع النظام الدموي، إلى مآلات لا تحمد عقباها، في ظل غياب الحل السلمي، وضرورة انتشال الواقع السوري من هذه العدوانية التي تحرق الأخضر اليابس.
لكننا مع ذلك نبقى وطنًا يطمح إلى وحدته الوطنية أولًا، خروجًا من ظلمات القرون الوسطى، والفكر ما قبل الوطني، ومن كابوس الحكم القمعي الاستبدادي الطويل، والتأخر المقيم، وصعود الأفكار الطائفية والعشائرية، وتعويمها عن سابق تصور وتصميم. ونبقى شعب من خلال أمة نتطلع إلى نهوض مدني ديمقراطي، ووحدة فصائلية وسياسية وجغرافية، قد لا تكون على نفس صياغات الماضي، ولا يجب أن تكون، التي علاها الصدأ، فتغيرت الظروف وانبلج صبح آخر، ورؤى أخرى، تبتعد عن الشوفينية القومية، وتتمسك بالفكر الديمقراطي، وبمفهوم الثورة الوطنية الديمقراطية، التي نادى بها قبلًا مفكري سورية، في العمل الوطني والسوري. كل ذلك مؤسسًا على تصور فكري سياسي واقتصادي نحو الاستقلال والخروج من التخلف والتابعية إلى فسحة جديدة من الأمل، ولنعيد سورية الحضارية إلى مسرح التاريخ الإنساني، رغم كل الحيف الذي وقع عليها، لتصنع الحرية والخير والتقدم لنفسها وللعالم الاقليمي من حولها، في مواجهة المشروع الإيراني الصفوي الذي يحاول الولوج إلى الوطن السوري، وأوطان المنطقة رغمًا عن شعوبها، والذي أتت به دولة الملالي، ولتفتح أبواب المنطقة على مصراعيها لهذا المشروع، وللاستيطان والتهجير القسري والامتداد فيها.
في زخم القصف الجوي على شعبنا، والقتل اليومي في ادلب، وفي ريف حلب الغربي، بل في كل أنحاء سورية، وحيث يحاول البعض قلب حقائق التاريخ والجغرافيا، محاولين لي زند الحقيقة، وكل معايير الحق والحقوق، ليصنعوا ما عجز الاستعمار عن صنعه، من أجل تقسيم المقسم، وتفتيت المفتت، واغتصاب إرادة البشر، وهدم الحجر، وسرقة التاريخ، وتكريس الواقع التناحري، بعد أن تم تحويل الجيش إلى آلة للقمع والقتل، وهو ما لا يفترض أن يكون، من جيش الوطن الذي بناه الشعب، وأقامه بعرق جبينه، ودمه، وروحه، من أجل تحرير الجولان وفلسطين.
هذه أيام نعيشها وأمامنا كشعب سوري بكل أطيافه حالة من النزيف لم يسبق وأن مرت على مسارات الوطنية السورية من قبل، وهذا التحدي الكبير الذي لا يوقفنا عند حدود نكبة تدمير حمص أو حلب أو دوما أو وادي بردى، بل يجعلنا نخاف أكثر على مستقبل هذا الوطن برمته، ونتحمل المسؤولية، وصولًا إلى الخروج من هذا المأزق الكبير الذي وصلنا إليه، في ظل فوات كبير لهذه الأمة وهذا الشعب.
ومن الحق في هذا الواقع الذي نعيش أن نذكر ونتذكر ما كان من تداول حضاري وثقافي في الماضي بين السوريين وغيرهم من الشعوب لصالح التقدم البشري، وما كان للحضارة العربية الاسلامية في أيامها من دور في إقامة التواصل الحضاري والثقافي لبني الانسان، وذلك التواصل العقلاني الذي انتقل من العرب في اسبانيا إلى أوروبا، حافز تقدم ونهوض وخروج من الظلمات الى النور.
لنعول أكثر على حالات النهوض، وهو مرتبط بالضرورة مع أي نهوض وطني ديمقراطي، في الوقت الذي يقوم فيه تواطؤ عالمي آخر، لسحب القضية السورية من التداول العربي والدولي، وتسليمها لمن لا يهتم فيها ولا يعطيها الأولوية والأحقية، وكل ذلك يجري تحت دعاوى إنقاذ جنيف واحد واثنان، أو التلطي وراء (الإنجاز العظيم) وهو تشكيل اللجنة الدستورية، والدعوة الى إنهاء الثورة والتسليم بالأمر الواقع ومقاومة العنف و” الإرهاب ” وتقديم مسألة ” مكافحة الارهاب ” على أي شيء آخر.
إن شعوبنا ليس من حقها الوطني والمشروع فقط، بل ومن واجبها أيضًا أن تقاوم وأن تتقدم بكل وسائل المقاومة المتاحة لرد هذا التحدي والعدوان الصارخ عليها، على مستقبلها، وواقعها وعلى حياتها ومعاشها..على كرامتها وإنسانيتها …ونستذكر هنا القول المعروف لعبد الناصر “نحن نريد السلام ولكن السلام بعيد، ونحن لا نريد الحرب ولكن الحرب من حولنا، وسوف نخوض المخاطر مهما كانت دفاعًا عن الحق والعدل “. ولا سبيل إلى تحقيقه إلا بوقف نزيف الدم وعودة المتدخلين الخارجيين إلى بلادهم، وإزاحة نظام الاستبداد، وإقامة دولة الحق والقانون والعدل. دولة مدنية ديمقراطية خالية من تدخلات الدولة الأمنية، ومن سطوتها على كل مقادير الحياة وكل تفاصيلها.
ذلك هو الطريق الذي نهض عليه شعبنا سابقًا، والذي أرسى قواعده لإحقاق الحق وإزالة كل أنواع القهر وإقامة دولة الحرية والحق، وهو طريق وطني سوري بامتياز، ليس أميركيًا، ولا روسيًا ولا ايرانيًا. بعيدًا عن التفريط بالحقوق الأساسية لشعبنا، طريق نلمس نتائجه قريبًا وليس بعيدًا، وهذا من حق شعبنا الذي يعاني من ضيم وتهميش، عبر خمسة عقود مضت، وهو شأن سوري وطني، ينادي به شعب سورية الثائر منذ اليوم الأول للثورة، وتنادي باستراتيجية جديدة له سورية الديمقراطية.. ومع ذلك فما زلنا في الوقت ذاته نريد من العالم والرأي العام العالمي، أن يفهمنا ويسمع صوتنا ويدرك عدالة قضيتنا وأهدافنا، لشعب تجاوز عدد مهجريه داخلًا وخارجًا كل حد، وهو ما شكل أكبر نسبة تهجير حصلت في العصر الحديث.
واليوم وبعد كل ما تغير وفي مواجهة كل ما جرى، تبقى الثورة السورية الديمقراطية خط دفاعنا الأخير، لا عن سورية فحسب، بل عن فلسطين وعن كافة الشعوب المقهورة وبالتداخل مع ثورتي لبنان والعراق. بل عن وجود المنطقة ومستقبلها، ونخشى أن يكون سقوط سورية -لا قدر الله –هو سقوط للأمة كل الأمة، وفي مستوى هذه الخطورة والتحدي الكبير فإننا نواجه مسؤولية إعادة تأسيس خياراتنا الديمقراطية، ووحدتنا الوطنية أولًا، في وعينا الوطني الديمقراطي، وبكل أبعادها كقضية ملزمة، وقضية مصير لهذا الشعب المكافح والصابر، وهي شأن وطني سوري، وليست شأن اللاعبين الدوليين عبر مصالحهم البراغماتية البائسة، والمندرجة في سياقات ليست سياقات شعبنا، ولا طموحاته في الحرية والوحدة والعدل والكرامة.
المصدر: المدار نت