منير الربيع
أصبح المشهد السياسي في لبنان، أشبه بأفعى على ظهر نسر. تخشى الأفعى “لسع” النسر فتقع، ويخشى النسر لسعة الأفعى فيموت، ولذلك يبدو الاثنان بحاجة إلى بعضهما البعض، ويتعانقان. الناظر إليهما من بعيد، يتفاجأ بحجم “الودّ” والتماهي بينهما. بينما الحقيقة في مكان آخر. وهكذا هي صورة تمسك القوى السياسية بالتوافق فيما بينها. فالثنائي الشيعي يتمسك بالحريري رئيساً للحكومة. والحريري يظهر زاهداً فيها، بينما رئيس الجمهورية يستعجل إجراء الاستشارات النيابية (الملزمة!) لكنه يفضّل تغليب التوافق. صورة حرص الأفرقاء على بعضهم البعض، نتيجة للأزمة القائمة، والتي تزداد تفجراً يوماً بعد آخر. فلا أحد يريد أن يتحمّل المسؤولية بمفرده، ويتمسك بالآخر ليكون شريكاً بتحمّلها.
الهزليات والبدع
صورة النسر والأفعى تختصر المشهد السياسي في لبنان. وما يدور حوله من شائعات وأكاذيب من نوع وجود أجواء إيجابية وتحقيق تقدم، وأن الحلّ يجب أن يكون لبنانياً، وأن سمير الخطيب قد قطع المسافة نصف المسافة ليكون رئيس الحكومة الجديدة.. كل ما يّحكى من هذا القبيل لا يعدو كونه جزءاً من الهزليات اللبنانية، التي يعمل كل طرف على إيقاع الآخرين فيها، مقابل الادعاء أنه يسعى بكل إيجابية لإنجاز التوافق. وتبقى البدعة الآن في شعار “لبننة الحلّ”، في حين أصبح مفضوحاً ارتباط الأزمة اللبنانية بأزمات إقليمية ودولية. وهذه تتضح من محاولات استدراج الدول إلى إيجاد الحلول، أو إجتراح اللقاءات والمؤتمرات، والرهان على عقد اجتماع لمجموعة الدعم الدولية في باريس منتصف الشهر المقبل. هذا الرهان ربطاً بكلام السفير الروسي حول “التخريب الأميركي في لبنان”، والذي يلقى صداه لدى محور الممانعة، يؤشر إلى أن الأزمة قد دوّلت.
تمسك حزب الله وحركة أمل بسعد الحريري لرئاسة الحكومة ليس حبّاً به، ولا لأسباب يظنّها الرجل أنها بطولة فيه، أو أن لا غنى عنه للخروج من الأزمة، أو ما يعتبره أوراق قوة موجودة في رصيده، كـ”علاقاته الدولية” التي تتيح للبنان الحصول على المساعدات، لإنقاذه من الانهيار الاقتصادي والمالي. فأي عاقل لا يمكن له أن يتوقع علاج الأزمة الاقتصادية والمالية أو الحدّ من انهيارها بسحر ساحر. فأقصى ما يمكن فعله حالياً هو إدارة هذا الانهيار. التمسك بالحريري ناجم عن قناعة لدى الجميع، بأنه يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، ولا يمكن أن يتهرب منها حالياً، عند لحظة الانفجار والانهيار، ليظهر وكأنه قد خرج من المركب الغارق. وأكثر من ذلك، هناك من يوجه إليه الكلام بأن عليه أن يتحمّل مسؤولية التسوية الرئاسية التي أبرمها. ويقولون: “إذا كان يعتبر نفسه المخلص، فكان عليه العمل لتلافي الانهيار، لا استغلال الأزمة ليعود فيما بعد تحت شعار: لن تجدوا أفضل مني”.
في المقابل، لدى الحريري ردّه أيضاً، الذي لا تنقصه الوجاهة. فبرأيه أن سياسة حزب الله وتعنّت التيار الوطني الحرّ، والانحياز إلى سياسة المحاور هو الذي وضع لبنان في الواجهة ورتّب عليه أثماناً باهظة. ولولا هذه السياسات لما وُضع لبنان تحت عقوبات غير معلنة، ولما حصلت القطيعة الخليجية معه. وبالتالي، أصبحت اللعبة لعبة “شخصية” بين الجميع. وكلّ يبحث عن تسجيل نقاطه ومراكمتها. معركة هذه النقاط، حلبتها كل ما يهتم به الناس ويهمهم، من لعبة الدولار وأسعاره إلى لعبة المحروقات.. وإيقاع الشرخ بين اللبنانيين، على مثال مشهد من يدفع لمحازبيه وموظفيه بالدولار نقداً، فيما الآخرون يتلقون نصف رواتبهم بالليرة اللبنانية، وصولاً إلى معركة جشعة مفتوحة من قبل أصحاب محطات المحروقات بوجه معركة شعبوية يقودها التيار الوطني الحرّ ووزيرة الطاقة.
ضرب رئاسة الحكومة
ولا تستثني هذه المعارك “الدونكيشوتية” مفاوضات تشكيل الحكومة، سواء عبر جهات تروج إلى إحراز التقدم، وشبه حسم تسمية سمير الخطيب لتشكيل الحكومة، وتعميم أجواء إيجابية غير واقعية، بالنظر إلى حال مختلف القوى التي لا تزال تنظر بريبة إلى مواقف بعضها. فالثنائي الشيعي والتيار الوطني الحرّ يعتبرون أن الحريري لا يزال يناور، بينما الحريري يعتبر أن الشروط التي يضعها الحزب وعون لا يمكن لأحد أن يوافق عليها. ولا يمكن أن تتشكل الحكومة ويعين رئيسها فيما بعد، ويُطلب منه التوقيع على مرسوم تشكيلها.
حزب الله يرفض حكومة من دون موافقة علنية وتفصيلية من الحريري على التصويت لهذه الحكومة والمشاركة فيها ومنحها الثقة. بينما كتلة المستقبل ترفض تسمية مرشحها إلا في الاستشارات النيابية. وفي ظل هذا الخلاف المبدئي، يستمر التلاعب بمصير اللبنانيين بأنواع أخرى من المفاوضات، حول شكل هذه الحكومة، وهل ستكون من 20 وزيراً أم 24، ومن هم وزراء الدولة السياسيون الذين سيشاركون فيها. وقبل الانتهاء من ذلك، يفتح نقاش آخر حول الحقائب والحديث عن مطالبة رئيس الحكومة بوزارة المالية وأن يتسلمها وزير تكنوقراط غير محسوب على الثنائي الشيعي، الذي يرفض ذلك. هذا كله من دون التوافق بعد على اسم رئيس الحكومة. وهنا بمعزل عن اسمه، ففي حال مجيئه بهذا الشكل، سيكون مجرّد صورة لا أكثر. ما يعني ضمناً الاستمرار في ضرب هذه المؤسسة، وتهشيمها وجعل رئيسها ليس أكثر من “باش كاتب”، تحتاج إليه أركان التسوية لتمرير اتفاقاتها.
إذلال الناس
معضلة أخرى تعترض طريق التفاوض بشأن تشكيل هذه الحكومة، وهي أنها المرة الأولى التي يواجه فيها الأفرقاء اللبنانيون مشكلة من هذا النوع، فمثلاً بحال رفض مشاركة القوات اللبنانية والكتائب فيها، وكانت حكومة من 24 أو 20 وزيراً، هل يصح إعطاء الوزراء المسيحيين لحصة التيار الوطني الحرّ كما يطالب عون وباسيل، ما يعني نصف عدد الوزراء. فيكون المتحكم بقراراتها ومسارها وإبقائها واستقالتها؟ والأمر نفسه ينطبق على مشاركة الحزب الاشتراكي أو تيار المستقبل من عدمها. يكفي النظر فقط إلى كيفية إدارة المفاوضات لتشكيل الحكومة، بمعزل عن الوصول إلى تشكيلها أو استمرار التعطيل، لمعرفة آلية تفكير وعمل هذه القوى السياسية، التي جلّ ما تبحث عنه هو زيادة فرصها وحظوظها، على حساب الناس التي لم تعش حال إذلال كالتي تعيشها حالياً، حتى في أيام الحرب.
المصدر: المدن