عز الدين البرغوثي
من اهم تجليات المشهد السوري، الانفصام الذي وقعت فيه الاحزاب اليسارية العربية، وانكشافها، وتماثلها مع انظمة الحكم في بنيتها الاستبدادية، تنظيميا وفكريا.
كشفت الاحداث هشاشة هذه الاحزاب الفكرية، فلم تكن اكثر من صراخا وعويلا سطحيا ،لا علاقة له بالفكر والممارسة ، وكان مصير الحزب الشيوعي العراقي، مؤشرا مهما على ذلك ، عقب الغزو الامريكي ،وانخراطه في العملية السياسية ،في نظام المحاصصة الطائفية ، وبالتالي تلاشيه في تلك الزوبعة. اتضحت مواقف تلك الاحزاب بعد اندلاع المظاهرات الشعبية في سوريا . لم تلتفت الى حجم الظلم والاستبداد وتغول الاجهزة الامنية ، والطغمة المالية الحاكمة، فاصطفت الى جانب النظام ضد الحركة الشعبية، منذ البدايات ،قبل دعشنة الحراك واسلمته ، وتمسكت بنظرية المؤامرة الامبريالية ،ولم تلتفت لعذابات الناس ومقدار الظلم والاستغلال والاستبداد الذي يشكل مواجهته الرافعة الاساسية لسبب وجودها .
من اللافت جزئيا، موقف الحزب الشيوعي السوداني، الذي تميز تاريخياً، باستقلاليه نسبيه ،وبحراك فكري داخلي، وسم تجربته طوال مسيرته. رغم الاضطراب في الموقف من الاحداث في سوريا ،الا انه حافظ على تميز عن بقية اطراف اليسار الماركسي العربي، فمثلا ،ادان الضربة الصاروخية الامريكية لمواقع النظام السوري عام 2017 باعتبارها ( العدوان الامريكي على سوريا) ،لكنه استدرك في ذات البيان (نؤكد ادانتنا لنظام بشار الأسد القمعي ) .
نظرا لظروف السودان التي يحكمها نظام عسكري استبدادي، يدعي المقاومة للعدو الصهيوني ، ويتشدق ليلا نهارا بدعم القضية الفلسطينية ، في الوقت الذي يهدم ما تبقى من السودان جغرافيا واقتصاديا واجتماعيا، وتتغول فيه سلطة العسكر التي تعمل نهبا للشعب وافقارا له، وتراكم الثروات في حسابات شخصيه، على حساب جوع الشعب وحرمانه ،فتميز الحزب بموقفه المختلف نسبيا عن الاحزاب اليسارية في سائر الدول العربية.
اللافت الدور البارز لتصدر الحزب الشيوعي السوداني للانتفاضة الشعبية ضد نظام البشير منذ اندلاعها في 19 كانون الأول 2018 ، ومساهمته من خلال نفوذه في النقابات العمالية والمنظمات الطلابية والنسائية والمهنية في الحراك الشعبي. وهكذا شملته حملة القمع والاعتقالات التي طالت الامين السياسي للحزب محمد مختار الخطيب ، والعديد من اعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية. فلم يكن متوقعا هذا الزخم والنشاط خاصة ان الحزب كان قد تلقى ضربة قصمت ظهره عام 1971، اثر اعدام قادة الحزب عبدالخالق محجوب والشفيع وغيرهم ، فدخل العمل السري حتى سقوط النميري عام 1985، ولم يحصل في انتخابات نيسان 1986، سوى على ثلاثة مقاعد، علما انه كان قد حصل في انتخابات 1965، على 15 مقعدا مشكلاً ثالث كتله برلمانيه من حيث الحجم.
المهم القاء الضوء على تميز تجربة الحزب الشيوعي السوداني عن سائر الاحزاب الشيوعية العربية. فقد دخل الفكر الماركسي السودان من خلال الطلاب الذين أمضوا سني الدراسة في مصر، واستفادوا من تجربتهم في الحركة السياسية المصرية في الاربعينات . انخرط التيجاني طيب في حركة (الايسكرا – أي الشرارة ) الماركسية، بينما انخرط عبد الخالق محجوب في (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني – حدتو) .وبعد عودتهم الى السودان توحد نشاطهم، عام 1947 في (الحركة السودانية للتحرر الوطني – حستو ) ، التي شكلت الواجهة العلنية للنشاط الجماهيري . وهكذا ، كانت الصلة الفكرية بالماركسية قد سبقت العلاقة مع الاتحاد السوفييتي .
من الجدير ذكره ان المعسكر الاشتراكي دعم مطلب السودان بالاستقلال في مداولات مجلس الأمن عام 1947. وارسل وفدا للتهنئة عقب الاستقلال عام 1956.
دخل السودان تجربة ديمقراطية، مثلت اول نظام ديمقراطي نيابي في افريقيا. ولم تستمر التجربة طويلا. إذ تنبه عبد القادر محجوب لما يدبره العسكر، فحذر من اقحام الجيش في الصراعات السياسية، ومن مؤامرة لوأد الديمقراطية الناشئة. وسرعان ما أطاح العسكر بالديمقراطية بانقلاب عسكري بقيادة الفريق ابراهيم عبود عام 1958. وصار محجوب هدفا للمطاردة والاعتقال .
كالعادة، رحب السوفييت بهذا الانقلاب ، واعتبروا نظام الفريق عبود ” وطنيا تقدميا” ، وغضوا النظر عن مصادرة الحريات وتعطيل الدستور، ومطاردة قادة الحركة السياسية، بما فيها الشيوعيين … وهنا نلاحظ التشابه في الموقف السوفييتي من بقية الانقلابات العسكرية في سوريا والعراق وغيرها.
كانت الاحزاب الشيوعية آنذاك تنصاع لأوامر موسكو وتغلّب مصالح المعسكر الاشتراكي على المصلحة الوطنية ، ولم يأت المثل الشعبي (يرفعون المظلة كلما أمطرت في موسكو) من فراغ وبضغط من موسكو، حل الحزب الشيوعي المصري نفسه وانضوى تحت لواء الناصرية. ورفض الحزب الشيوعي السوداني الانخراط في خدمة النظام العسكري، وشق عصا الطاعة ،في الوقت الذي لم تكن تجرؤ فيه الاحزاب الشيوعية على رفض اوامر موسكو. وأعلن السوفييت أن الحزب الشيوعي السوداني يمثل اتجاها ” يساريا مغامرا “، ممهدا لاستخدام العصا الغليظة ، إلا أن الانقسام بين موسكو وبكين، والصراع داخل الاحزاب الشيوعية بين العاصمتين انقذ قادة الحزب من غضب موسكو ..
استمر الحزب في خوضه النضال وصولا لانتفاضة اكتوبر 1964 ، والاطاحة بحكم الفريق عبود. فأدرك السوفييت خطأ قراءتهم للواقع السوداني وتهيأت الاجواء امام عبد الخالق محجوب ليأخذ موقعه في مقدمة الزعماء الشيوعيين في افريقيا والشرق الأوسط .وهكذا سجل الحزب سابقة في معارضة توجهات موسكو . لم تكن تلك المحطة الوحيدة ، التي اثبت الحزب فيها استقلاليه عن المركز العالمي للحركة الشيوعية، بل استمر بأخذه المسألة الوطنية والقومية بعين الاعتبار على خلاف سائر الاحزاب الشيوعية العربية. وعلى سبيل المثال، في الوقت الذي ايدت فيه موسكو مشروع تقسيم فلسطين ،وتبعته الاحزاب الشيوعية العربية، ندد المؤتمر الرابع للشيوعي السوداني، بقرار التقسيم، وعارض موافقة الاتحاد السوفييتي على اقامة دولة الكيان الصهيوني، معلنا ” لا حق لليهود اقامة دولة قومية باعتبارهم لا يمثلون أمة” ، مما أثار غضب السوفييت مجددا ، ووصموا عبد الخالق محجوب وحزبه بالانزلاق الى مستنقع ” القومية الشوفينية الآسن” .
لم تكن تجربة الحزب طبعا تخلوا من الاخطاء، في مواقفه من بعض القضايا هنا وهناك ، إلا انهم كانوا دوما يضعون الأولويه للقضايا الوطنية حتى لو تناقضت مع مصلحة السوفييت والمعسكر الاشتراكي . فعلى الرغم من تأييدهم لانقلاب النميري، الذي اعتبرته موسكو تقدميا، ودعمته اثر مواقفه المؤيدة للسوفييت ، واعترافه بجمهورية المانيا الاشتراكية، وكان ثاني دولة عربيه تعترف بها بعد العراق. حافظ الحزب الشيوعي على مسافه من النظام ، معتبرا أن الضباط لن يتمكنوا من انجاز مهام التحول الاقتصادي، مطالبا بتوسيع قاعدة المشاركة الجماهيرية، منتقدا الاعتراف بألمانيا الشرقية الذي سيحرم السودان من فرص الاستفادة من العلاقة مع الغرب، لأنه من وجهة نظره أن المعسكر الاشتراكي لا يحتمل اعباء التطور الاقتصادي في السودان، ودعا لسياسة وطنية غير منحازة للاستفادة قدر الامكان من الشرق والغرب. هكذا رأى السوفييت أن محجوب تمادى اكثر في تجاهل مصالح المعسكر الاشتراكي، فحرضوا الكوادر الحزبية ضده، والانشقاق عنه، باعتباره متواطئ مع (فلول الأحزاب اليمينية) ووصفوه باليميني ” المتلحف بثوب اليسار” .
انكشف النميري للسوفييت بعد وفاة جمال عبد الناصر، واستغل اخفاق انقلاب حزيران 1971، لتصفية الشيوعيين، من الجناحين، واعدام قادتهم، في مقدمتهم عبد الخالق محجوب .
مزج محجوب بين الأممية والوطنية في آن واحد. احتفى السوفييت بمواقفه الاممية ولم يتسع صدرهم لتفهم مواقفه الوطنية، في دفاعه عن الديمقراطية والتآخي بين القوميات السودانية ،والعدالة الاجتماعية، واستقلال حزبه، وظل وفيا لمبادئه حتى اعدامه.
يتكئ الحزب اليوم على هذا الارث الغني، نضاليا، والمشاكس لمركز الشيوعية العالمية في اوج قوتها، مخالفا توجهاتها عندما تتناقض مع المصلحة الوطنية وفقا لتصوراته، وهذا ما أوقع الحزب في ازمة فكريه عندما وصلت رياح الثورة الى سوريا ، فاضطرب موقفه، الا انه لم ينبري للدفاع عن الاسد كسائر احزاب اليسار المخاطية، وقد تصلب الاحداث الجارية في السودان مواقفه مما يشكل بارقة امل فيما تبقى من احزاب يساريه. نعود لأصل المشكلة التي كان مؤسس الحزب محجوب يؤكد عليها دوما ….الديمقراطية اولا وهي الممر الآمن لحل مشكلات البلاد الاخرى .