عبد الباسط حمودة
ما نشهده اليوم في سورية ولبنان والعراق تتردد أصداؤه في إيران، والسبب الأصلي هو لقمة العيش وفرص العمل، والمجتمع السليم المتسامح، بمنأى عن فساد يزرعه سلاح “مافيا” تتستر بالدين، وتقتل عشوائياً، وتفتك بمجتمعاتها مستخدمة آفات الانغلاق والتعصب وافتعال العداوات وترويج المخدرات؛ إن “الهلال” الذي أراد نظام الملالي في طهران تشكيله في العراق وسورية ولبنان، عبر سياسة التمزيق المجتمعيّ والحروب الأهلية، تحوَّل إلى هلالٍ من نار يحرقهم؛ فثورة لبنان المدنية، التي رفعت عنواناً عابراً للطوائف، حشرت “حزبالهـ” في مكانٍ أضيق من المخبأ السرّي الذي يختبئ فيه حسن نصر الله . وثورة العراق، التي تُقدّم أرقى أشكال الوعي المدني، بات يحمل شعلتَها أحرارُ الطائفة التي طالما استخدمها ملالي طهران للسيطرة على العراق ومُقدَّراته.. ولم يتأخَّر الإيرانيون أنفسهم عن اللحاق بالركب من خلال انتفاضة عارمة جعلت صورَ المرشد الأعلى أكثر اشتعالاً من الوقود الذي رفعت حكومة الملالي أسعاره للتو وأحرار إيران يقلبون الطاولة على خامنئي و”ثورته السوداء” من خلال مواجهتهم مع سلطة الوقاحة والخُبث والجريمة.
لقد رأينا كيف واجهت الماكينة الإيرانية ثورتنا السورية بالشحن الطائفي، قبل دخول دول خليجية على الخط نفسه، ورأينا أيضاً مقاتلي الميليشيات الشيعية يقتلون السوريين تحت تلك الشعارات الطائفية وثاراتها؛ بالطبع يصعب الآن تكرار السيناريو الطائفي نفسه، أما جوهر الاستقواء والقمع فلا يبدو أنه استخلص الدرس مما حدث في سوريا. العنف الممارس ضد انتفاضة العراق، والتهديد القائم بممارسته في لبنان، يشيران إلى أن النظام الإيراني لا يملك وسيلة أخرى ناجعة للاستمرار بسيطرته.
جوهر السيطرة هو القوة المباشرة والعسكرة، ثبت ذلك حتى ضمن بيئات نُظر إليها كحاضنة له بسبب القرابة المذهبية، والأموال الطائلة التي صرفتها الطغمة الإيرانية الحاكمة على مشاريع إنشاء ميليشيات تتولى نشر النفوذ الإيراني، والحديث عن الأموال يتعلق مثلاً بما يقدّر بـ 15 مليار دولار أُنفقت من أجل الإبقاء على نظام بشار وحده، ومع مليار ونصف المليار كتكلفة سنوية لحزباله، فضلاً عن كلفة إنشاء وتشغيل ميليشيات شيعية أخرى مثل الميليشيات الأفغانية، والإسراف في الإنفاق على العسكرة يعكس الإدراك بأنها السبيل الوحيد للهيمنة والتوسع، ويعكس تقديم هذا الهدف على المتطلبات الحيوية للمواطن الإيراني الذي كانت معيشته تنهار طرداً مع توسع نفوذ حكامه، حتى الأموال التي رُفع عنها التجميد الأمريكي لمناسبة الاتفاق النووي، تبخرت في المسار نفسه ولم يُلحظ لها أدنى أثر على الاقتصاد الإيراني المتداعي.
رغم كل جهود ومساعي التركيبة الدينية-العسكرية الحاكمة، كنا على موعد مع هزيمتها في سوريا لولا النجدة الروسية، النجدة التي نالت وستنال حصتها من النفوذ الإيراني، وما تنذر به انتفاضة العراق، وهي ليست الأولى في السنوات الأخيرة، أن النفوذ الإيراني هناك لا يرتكز على أرض صلبة، ولا يمكن الحفاظ على وضعه الراهن سلماً.. أيضاً في لبنان، عاجلاً أم آجلاً ستنفجر صيغة الدولة داخل الدويلة، إن لم يكن هذا يحدث الآن، ومن العسير جداً الحفاظ عليها إلا بالحرب أو التهديد المستمر بها.
ما شهدته إيران وانفجار الحركة الاحتجاجية والشرارة التي أطلقها قرار زيادة سعر البنزين أشعلت هشيم سنوات من تراكم الصمت على الأزمات التي لا تقتصر فقط على تداعيات العقوبات الأمريكية، بل لما ظهر من صراع داخلي بين قوى السلطة، وما يكشف عنه من أهوال ومصائب اقتصادية تسببت بها عمليات النهب المنظم والفساد المنتشر والمستشري في مفاصل النظام والسلطة، إضافة الى فشل الحكومات المتوالية على مدى سنوات ما بعد الثورة الإسلامية المزعومة في إدارة الاقتصاد، فالشعوب الإيرانية لم تعد قادرة على تحمل تبعات ونتائج هذه السياسات. والناس في إيران تبحث عن أي محفّز للانتفاض ضد النظام وهو ما حصل بعد زيادة سعر البنزين فاحتج المواطنون بمدن الأحواز وفي بضع ساعات توسع الى 53 مدينة إيرانية كبيرة مثل طهران وأصفهان ومشهد وشيراز وتبريز وسنندج، وأصبح الهدف تغيير وإسقاط النظام السياسي وكانت شعارات الناس واضحة: “يسقط النظام” و”يسقط الدكتاتور خومنئي”.
القارب الإيراني بكل حمولته داخلياً وخارجياً معرّض للغرق وهو غير متماسك داخلياً، حتى في جغرافيته التي صنعها بمقاييسه، لا تتوقف عند ابتلاع دولة الأحواز العربية، بعد تهجير سكانها العرب واستبدالهم لتغيير ديمغرافية المنطقة والتي تُعد امتداداً للجغرافيا العربية؛ وقمعت سكانها، لدرجة منعهم من الحديث حتى بلغتهم العربية واستخدامها في شوارع الأحواز، التي كانت بالأمس القريب تسمى عربستان، أي بلاد العرب.
والنظام الإيراني المأزوم داخلياً وخارجياً، لم يعد يواجه مظاهرات الدول التي تعبث فيها أذرعه الميليشياوية كلبنان والعراق، بل أصبح يواجه الغضب الداخلي المكبوت والمتفاقم، فالمظاهرات الشعبية الإيرانية الساخطة وقودها الفقر والجوع والبطالة وغلاء المعيشة، وليس “المُندسين” و”العملاء” والشيطان الأكبر، شماعات النظام الإيراني المتكررة في كل أزمة تواجهه؛ فالمشكلة داخلية مطلقة وليست مؤامرة خارجية.
النظام الإيراني يختار سياسة الإنكار والتعتيم لوقف الاحتجاجات كما تابعه الأسدي القاتل، فالثورة في إيران انطلقت، وثمة ما يسمى “حرس ثوري” لا بد وأن يرفع قبضته الفولاذية بمواجهة المنتفضين؛ الانتفاضة باتت حقيقة. قد لا نراهن على انتصارها، ولكننا لا بد وأن نراهن على أنها الحقيقة الوحيدة التي تُخرج الايرانيين والمنطقة برمتها من زمن الكهف والغيلان.
“الثورة تمددت من لبنان والعراق إلى إيران”. لتمثل الاحتجاجات الإيرانية حدثاً بالغ الأهمية، فالمشهد لم يقتصر على إقفال الطرق، بل وصل الى إحراق صور المرشد الأعلى علي الخومنئي وإحراق المصرف المركزي الذي وضعته واشنطن قبل أشهر قليلة على لوائح العقوبات وإحراق العلم الإيراني “خاصةً وسطه” لما له من رمزية. وتفاعل العرب مع الحدث الايراني بطريقة استثنائية، بالنظر إلى أن انتفاضة 2009، فاتخذت شكل يعبر عن غضب شعبي عارم، رافقه قطع طرقات وإحراق منشآت رسمية، فيما ردّ الباسيج بقتل عشرات المتظاهرين بعد أيام على اشتعال ثورة أحرار إيران مستخدماً القانصات.
لقد انتهت الكذبة الكبرى لملالي طهران، وانتهى معها الخوف! من سورية واليمن ولبنان والعراق. إلى إيران من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، ما عاد ممكناً التعايش بين الجوع والفساد. والأيام المقبلة قد تكون كفيلة في تحديد الاتجاهات والطابع الذي ستتخذه موجة الاعتراضات في إيران، وهل ستبقى تحت سقف المطالب الاقتصادية، أم أنها ستذهب لمزيد من التسييس والمواجهة المفتوحة حول النظام والسلطة، والتغيير الذي قد يكون جذرياً؟ الأزمة الإيرانية كبيرة ومتفاقمة وستكون نتائجها كارثية على النظام وستنتهي لا محال بزواله، وإن طال الزمن، ونأمل ألا تنتهي بفاتورة دماء كبيرة مؤلمة للشعب الإيراني.
المصدر: اشراق