ميشيل شماس
موضوع العقارات وحقوق الملكية في سوريا لاسيما المتعلقة بعشرات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسرياً والمفقودين سواء في مناطق سيطرة النظام أم المليشيات المسلحة ستشكل تحدياً هائلاً أمام أية تسوية سياسية، بصفتها من أكثر القضايا تعقيداً وأشدها إيلاماً من حيث آثارها الهائلة ليس على المعتقلين والمختفين قسرياً وحسب، بل امتداد تأثيراتها على عائلاتهم وأقربائهم وعدم استطاعتهم التصرف بالملكيات العقارية والنزاعات التي قد تنشأ في معاملات الإرث وخلافها، وإن عدم إيجاد حل عادل لها سيؤدي إلى المزيد من الاضطراب الاجتماعي والسياسي في البلاد.
فعلى سبيل المثال، أي عائلة معتقل لدى الأسد لا تستطيع التصرف بممتلكاته لتأمين معيشتها مثلاً، هذا ما جرى مع عائلة أحد المحامين المعتقلين -أتحفظ على ذكر اسمه- حيث تقدمت عائلته بطلب تنظيم ضبط باعتباره مفقوداً حتى تستطيع التصرف بالممتلكات المسجلة باسمه لتأمين معيشتهم. إلا أن الشرطة رفضت اعتباره مفقوداً، وأخبرت عائلته بأنه ليس مفقوداً، بل موقوفاً لدى أحد فروع الأمن بدمشق.
تفيد تقديرات متطابقة بأن هناك أكثر من مئة ألف ما يزالون مختفين قسرياً لدى النظام السوري يضاف إليها حوالي 15000 مختف قسرياً لدى كافة المليشيات المسلحة الكردية والإسلامية والجماعات الإرهابية. وفي هذا الصدد أوضحت الشبكة السورية لحقوق الانسان في تقرير لها أصدرته الشهر الماضي أنها وثقت 144889 حالة اعتقال واختفاء قسري منذ آذار 2011 وحتى تاريخه، من بينهم 128417 حالة لدى النظام السوري. وقد خلص التقرير إلى أن عدد المختفين قسريا حالياً في سورية بلغ 98279 حالة، من بينهم 83574 لدى النظام السوري والباقي لدى الميلشيات الكردية والإسلامية والتنظيمات الإرهابية.
لوحظ على امتداد السنوات السابقة أن النظام السوري استهدف الملكيات العقارية للمعارضين له ومن يسميهم “إرهابيين” بالمصادرة والاستيلاء عليها بطريقتين:
الطريقة الأولى: عن طريق الطلب من المحاكم ولاسيما محكمة الميدان العسكرية ومحكمة الإرهاب بإلقاء الحجوزات الاحتياطية على أموال الموقوفين المنقولة وغير المنقولة، وما زلت أذكر أن معظم الضبوط الأمنية التي تمت إحالتها إلى محكمة الارهاب والتي تسنى لي الاطلاع عليها خلال دفاعي عن المعتقلين كانت تتضمن العبارة التالية ” نحيل إليكم فلان لمحاكمته بالتهم المنسوبة له وإلقاء الحجز الاحتياطي على أموال المذكور المنقولة وغير المنقولة ومنعه من السفر، وتزويدنا بالحكم الذي سيصدر بحقه لضمه الى ملفه لدينا..”.
وقبل خروجي من سوريا في تموز 2015 تجاوز عدد الملفات القضائية التي أحيلت الى محكمة الارهاب منذ إنشائها 65000 ألف، وكل ملف يتضمن أحياناً ما بين متهم واحد وحتى عشرين متهماً، فتصوروا عدد المحالين إليها خلال أربع سنوات والذين تم الحجز على ممتلكاتهم.
الطريقة الثانية: بواسطة المراسيم التشريعية، كما في المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012، الذي منح السلطات العدلية “أجهزة الأمن والشرطة” في معرض التحقيقات التي تجريها بشأن الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي والخارجي والجرائم الواردة في قانون الارهاب أن تطلب خطياً إلى وزير المالية اتخاذ الاجراءات التحفظية على الأموال المنقولة وغير المنقولة للمتهم. وكذلك قانون الإرهاب نفسه الذي يجيز حجز الممتلكات، وأيضاً المرسوم 10 لعام 2018 الذي سيؤدي تطبيقه في ظل الظروف الحالية إلى حرمان الكثيرين من ممتلكاتهم ولاسيما اللاجئين الذين لا يجرؤون على العودة بسبب الملاحقات الأمنية.
ولا يختلف المشهد كثيراً عما هو عليه الحال في مناطق سيطرة المليشيات المسلحة على اختلاف أنواعها. ففي 22/12/2018 أقدمت “هيئة تحرير الشام” على مصادرة نحو 15 منزلاً في مدينة كفرزيتا بالريف الشمالي، بحجة أن ملكيتها تعود لموالي نظام الأسد. وفي 2019 صادرت حوالي 100 منزل في ريف حماه. كما قامت المليشيات المسلحة التابعة لتركيا بمصادرة ممتلكات الكثير من سكان عفرين ومنحها لمهجرين من مناطق أخرى كالغوطة مثلا. كما تفيد تقارير عن قيام الميلشيات الكردية بمصادرة المنازل والأملاك في عدد من المناطق التي سيطرت عليها.
لا يمكن فهم مصادرة أموال وممتلكات الآلاف وربما عشرات الآلاف من المواطنين السوريين، سواء في مناطق نظام الأسد أم المناطق الخارجة عن سيطرته إلا في إطار محاولة كسر إرادة المواطنين السوريين الذين قالوا لا للنظام ولا للمليشيات المسلحة وتعقيد حياتهم المعيشية وإشاعة أجواء من الخوف والرعب في نفوسهم وإفقارهم وشل اي قدرة لهم على المطالبة بحقوقهم وحرياتهم.
ينبغي لأي جهة دولية تسعى للمشاركة في التسوية السياسية وإحلال السلام في سوريا أن تعمل أولاً على نزع سلاح جميع الأطراف الأجنبية والمحلية في النزاع، وتحقيق وقف إطلاق نار مستدام على المستوى الوطني. وإطلاق سراح كافة المعتقلين والمختفين قسرياً لدى كافة الأطراف، والكشف عن المفقودين، كما ينبغي على الدول الأوروبية، التي اكتفى معظمها بلعب دور المراقب في المفاوضات التي جرت على امتداد السنوات السابقة أن تعتمد مقاربة حقوقية قانونية تقدم ضمانات جدية لحماية السكان من التجنيد الإجباري، ومصادرة الأراضي، واستمرار احتجاز آلاف المعتقلين. كذلك على أي مشاركة دولية في جهود إعادة الإعمار مستقبلاً أن تكون مشروطة بمقاربة حقوقية تضع اللاجئين والنازحين بعين الاعتبار وتسعى إلى تلبية تطلعات السكان المحليين.
ما لم تأخذ الأطراف المحلية والدولية لاسيما تلك المتدخلة والمؤثرة في النزاع الدائر في سوريا وحولها بعين الاعتبار الأسباب الحقيقية لثورة السوريين والآثار المترتبة على النزاع المسلح، لا يمكن لأي عملية سياسية ولا مصالحة حقيقية أن تنشأ ولا يمكن التوصل بالتالي إلى أي سلام مستدام في سوريا.
المصدر: بروكار برس