عمر كوش
يطرح المقال المشترك للكاتبين، آلان غريش، وجان بيار سيريني، “مواسم الربيع العربي من منظور تاريخي” (العربي الجديد: 22/11/2019)، أسئلة عن العقبات التي تعترض الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، وعمّا إذا كان التاريخ “يلقي ضوءاً على مآلها”. ويبدآن من الموجة الأولى التي “أطاحت النظم الدكتاتورية في تونس ومصر وليبيا واليمن وقوّضت نظامي البحرين وسورية، ناهيك عن احتجاجات عديدة عمّت المغرب والجزائر والعراق والسودان”، ثم جاءت الثورة المضادة، بدءاً بالانقلاب العسكري في مصر في الثالث من يوليو/ تموز 2013، كي تؤكد “قدرة المنظومة القديمة على التأقلم والمقاومة، عبر جمعها بين القمع وإغداق السيولة المالية (الآتية من بلدان الخليج أو عائدات النفط) والتنازلات الشكلية إلى هذا الحد أو ذاك”. ويرى الكاتبان أنه في وقتٍ كانت الأوهام تساور بعضهم، ولا سيما في الغرب، بعودة “الاستقرار”، فإنها سرعان ما تبدّدت بعد اندلاع الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي عام 2019، بدءاً من الثورة السودانية، ومروراً باحتجاجات الجزائر التي أنهت العهدة “الخامسة المبرمجة للرئيس المتهالك، وما زالت تطالب بوضع حد نهائي للنظام الذي استغل البلاد شر استغلال”، وصولاً إلى ثورتي العراق ولبنان ضد نظام المحاصصة الطائفية والاستتباع.
ويذهب الكاتبان إلى تعداد “دوافع هذه الموجة الثانية”، التي يريانها الدوافع نفسها للموجة الأولى، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أنهما يعتبران أن الحراك الاحتجاجي “استخلص بعض العبر من الماضي، فرفض العَسْكرة، على الرغم من القمع العنيف الذي مورس بحقه في العراق أو في السودان، ونأى بنفسه عن محاولات شق صفوفه”.
لكل من الثورات العربية، وحراكاتها الاحتجاجية، ظروفه الداخلية والخارجية، وهي بشكل عام تبدأ سلميةً ومدنية، ولكن تعامل كل نظام معها مختلف، فتعامُل نظام بن علي الهارب مع المحتجين لم يكن بدرجة العنف والقمع نفسها التي تعامل بها نظام الأسد مع الحراك الاحتجاجي للثورة السورية، إذ منذ اليوم الأول للثورة بدأ نظام الأسد بقتل المتظاهرين السلميين، واستمر في قتل المحتجين السلميين أشهرا عديدة على مرأى العالم كله ومسمعه، وكذلك الأمر في أيامنا هذه، حيث يختلف تعامل نظام المحاصصة الطائفية في بغداد مع المحتجين العراقيين عن تعامل رصيفه مع المحتجين اللبنانيين، كما تختلف، أيضاً، المواقف الدولية من كلا الحراكين.
ويعتقد الكاتبان أن الحراك “يصطدم اليوم بعقبة كبرى، بحاجز جسيم كان قد حاول الالتفاف عليه في 2011-2012، وهو ابتكار نظام اقتصادي اجتماعي جديد”. ولتبيان صعوبة الحال، يلقيان الضوء على خلفية تاريخية، تشكلت خلالها ما عُرفت بدولة ما بعد الاستعمار، أو الدولة الوطنية، التي أنتجت سلطاتٍ مستبدةً ودكتاتورية، ويخلصان منها إلى أن ثمّة طريقا “أكثر وعورة وازدحاماً بالعقبات، فهو طريقٌ يستند إلى ثقافةٍ تعدّدية جديدة تبصر النور حالياً، وإلى تنمية اقتصادية وطنية، تلبي احتياجات الشعب، ما يفترض إجراء قطيعة مع المنطق النيوليبرالي والتجارة الحرة التي لا تعرف أي قيد أو شرط”.
ويكشف واقع الحال أن الثورات وحراكاتها الاحتجاجية في البلدان العربية جاءتا كي تشكل محاولةً من الشعوب للتخلص من عقود طويلة وثقيلة من حياة القهر والذل والعبودية التي تعيشها. ولذلك تختلط في لحظات الحراك مشاعر الفرح للانعتاق من أسر الاستبداد مع مشاعر القلق على مستقبلٍ غير واضح المعالم. ولعل هدف الثورات الأساس هو التحرّر من الطغمة التي حلت بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية. ولا تزال تحدّياتٌ عديدة تواجه قوى الحراك، كي تكتب صفحةً جديدة من التاريخ، وبالتالي في لحظات الحراك ليس همّاً “ابتكار نظام اقتصادي جديد”، بل تتمحور المطالب حول نظام اقتصادي اجتماعي، يقضي على النهب والفساد المستشري في الأنظمة العربية، وينهي الهوّة الكبيرة في الدخل ما بين أباطرة المال والمليارديرية الذين يراكمون الثروات بطرقٍ غير شرعية وسائر فئات الشعوب الوسطى والفقيرة، ويوفر للشابات والشباب فرص العمل وسوى ذلك، من خلال تنمية اقتصادية، “تلبي احتياجات الشعوب”، وهو ما يستلزم القطع مع منطق الليبرالية الجديدة المتوحشّة.
ولكن المستغرب أن يعول كلا الكاتبين على الموقف الفرنسي والأوروبي من خلال وضعهما أمام خيارين: “إما مواكبة الخيارات البديلة أو التشبث بالنظريات البالية التي تزيد من انتشار الفوضى، واللذان سيدفعان بدورهما ثمنها في نهاية المطاف”. وكأن الكاتبين لم يخبرا بعد المواقف الفرنسية والأوروبية من الثورات العربية التي لم تكن في أي يوم إلى جانب ثورات الشعوب، ويسودها منطق الليبرالية الجديدة المتوحشة التي لم ترد على مطالب حراك السترات الصفراء في فرنسا ذاتها. والأهم أن من يدفع ثمن التمسّك بالنظريات البالية هو الشعوب العربية، بالدرجة الأولى، والتي توجه أصابعها إلى الأنظمة العربية المدعومة من فرنسا وسائر دول الغرب، كون هذه لم تقف يوماً مع الخيارات البديلة إلا من باب تحقيق مصالحها على حساب الشعوب العربية، وخير دليل هو ما آل إليه الوضع في ليبيا وفي العراق وفي سورية وسواها.
وإذا كانت الثورات والانتفاضات العربية ضد أنظمة مستبدة قد أحرجت دبلوماسيات القوى الغربية التي وجدت نفسها مضطرّة للتكيف مع الوضع الجديد، إلا أنها أيضاً لم تتوان عن دعم الثورات المضادة في مصر وسورية والجزائر وسواها. وكان الرعب من تولي الإسلاميين السلطة في بعض البلدان العربية المبرّر الأساس لدعمها أنظمة سلطوية وفاسدة، كانت تعتبرها بمثابة درع ضد التهديد الإسلامي.
ويعي آلان غريش وجان بيار سيريني تماماً أن تراجع الخيار الديمقراطي في كل من فرنسا وأوروبا والولايات المتحدة وسواها، كان له نتائج كارثية على الثورات العربية التي لم يقف إلى جانبها ليبراليو فرنسا والغرب عموماً. وأظهرت مواقف هذه الدول من الموجة الأولى للثورات العربية أنها لا تكترث بتطلعاتها الديمقراطية، على الرغم من أنها تطرح نفسها بوصفها القوى الديمقراطية في العالم، لأنها لا تقرّ، ولا تريد الاعتراف بحق الشعوب العربية في سيادتها على مقدّرات بلدانها، إنما كانت على الدوام تساند طغما حاكمة، تابعة أو عميلة لها، استولت طوال عقود ثقيلة على السلطات في هذه البلدان، وكانت تتذرّع بمختلف الحجج، بحجّة دعم الاستقرار الذي يعني استمرار الحفاظ على مصالحها الحيوية فيها، أو بالأحرى مصالح الشركات العملاقة ومصالح الليبرالية الجديدة المتوحشة التي باتت تحارب أي حراكٍ يعيد بناء الشعب، ويطالب بسيادة الشعب، بوصفه صاحب الحق في إدارة شؤون بلاده، وحقه في الإشراف على استقلال قرارات بلاده.
لم يرفع الحراك الاحتجاجي في الدول العربية أي شعار معاد للغرب، بل أكّدت مطالبه على ضرورة العيش بسلام، وعلى الكرامة وحكم القانون والتضامن والتفاهم والمساواة، وتمسّكت قواه بمفاهيم المواطنة والجمهورية، وهي قيم ومفاهيم لا تتعارض مع الحريات الليبرالية، ولا مع جوهر الديمقراطية. ومع ذلك، هناك توجه لدى ليبراليي الغرب وميل نحو الاستبداد ومساندته، إلى جانب عداء للثورات الديمقراطية التي يرونها حركاتٍ تهدف إلى حرمانهم من استمرار مراكمة ثرواتهم ونهبهم. لذلك كله، لا تعول حركات الاحتجاج العربي على الموقف الفرنسي، ولا على سواه من المواقف الأوروبية أو الغربية بشكل عام.
المصدر: العربي الجديد