سمير صالحة
دعا المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، إلى تجنّب بناء سيناريوهات سلبيّة بخصوص العلاقات الروسية – التركية في إدلب وسورية، لكنه لم يتجاهل التوقف عند مسألة أن تركيا “لم تلتزم ببنود اتفاق سوتشي، وأن الإرهابيين في محافظة إدلب يحصلون على معدات عسكرية خطيرة جداً من أنقرة”. ويردّد وزير الخارجية التركي، جاووش أوغلو، منذ البداية، أن على بلاده أن لا تسمح للأزمة السورية بأن تؤثر على علاقات التعاون والتنسيق مع موسكو، لكنه ينسى وجود أولويات تركية معروفة في سورية، تتعارض كليا مع الرؤية الروسية: وقف إطلاق نار شامل، انسحاب قوات النظام إلى حدود سبتمبر/ أيلول 2018 في إطار تفاهمات سوتشي، منطقة آمنة جديدة للنازحين، منطقة حظر جوي فوق إدلب برعاية دولية ومرحلة انتقالية سريعة في سورية تهدف إلى تخليصها من ظلم النظام.
تقول أنقرة إن هدفها هو قوات النظام في إدلب التي استهدفت القوات التركية وأبراج المراقبة الموجودة في إطار تفاهمات تركية روسية، وموسكو تقول إنها لن تسمح بذلك. ومواصلة التحدّي والتصعيد والتمسّك بالمواقف تعني أن المواجهة التركية الروسية العسكرية المباشرة في إدلب من الاحتمالات الواردة عند ارتكاب أول هفوة قد تكون مفتعلة لصالح عواصم وأجهزة كثيرة تريد وقوعها.
ما الذي سيجري مع نهاية شهر فبراير/ شباط الحالي، موعد الإنذار التركي الموجّه إلى النظام في دمشق، بسحب قواته إلى ما قبل خريطة اتفاقية سوتشي قبل عام ونصف العام؟ كيف سترد موسكو على التحرّك العسكري التركي، ودخوله حيز التنفيذ؟ لماذا ساهمت موسكو في إيصال الأمور إلى هذه الدرجة من التعقيد والتشرذم بذريعة الحرب على المجموعات الإرهابية ومقولة فشل تركيا في الفصل بين المعتدلين والمتطرفين في إدلب؟ ما هو هدف القمة الرباعية التركية الروسية الألمانية الفرنسية المرتقبة في إسطنبول؟ التوسط بين أنقرة وموسكو أم الوجود شاهدا على أي اتفاق تركي روسي مفاجئ حول إدلب؟ لا قيمة لقمة تعقد من هذا النوع في حال بدأت تركيا عملياتها العسكرية، وهي ستكون شكلية، مثل سابقتها قبل أشهر، إذا لم نشأ القول إنها ستلغى حتما.
حقيقة أخرى، إذا ما تعثرت المحادثات التركية الروسية، وفشل الرئيسان، التركي أردوغان والروسي بوتين، في تحقيق قفزة كبيرة نحو الحلحلة، فإن ذلك يعني أن العلاقات بين البلدين ستكون أمام امتحان أصعب من امتحان العام 2015 وحادثة إسقاط المقاتلة الروسية. ولكن مشكلة أنقرة مع موسكو في سورية هي ليست وقوف الأخيرة إلى جانب النظام فقط، بل التخطيط والتنفيذ، بدلا عنه في معظم الأحيان.
من كان يدافع عن سياسة التقارب التركي الروسي في الداخل التركي أمس يحذر اليوم من خديعة الكرملين، والفخ الذي ينصبه لأنقرة في إدلب وسورية. أقلام تدافع عن سياسات الحكم وقراراته تتبنّى ما يقوله دولت بهشلي، زعيم حزب الحركة القومية اليميني وحليف الحزب الحاكم اليوم “لنطاردهم حتى دمشق”، مع أن قوات النظام السوري هي التي تواصل تقدّمها مدعومة بشريك أنقرة الروسي ومليشيات الجار الإيراني باتجاه الحدود التركية السورية في شمال غرب سورية.
وقد نجحت موسكو في إبعاد أنقرة عن عواصم غربية عديدة، وتحديدا واشنطن، في سورية. ثم تركتها وحيدة في مواجهتها معها في الملف السوري وقرارات التصعيد والتحدّي باسمها ونيابة عن النظام. كان الرهان الروسي، منذ البداية، يتمحور حول عجز أنقرة على حسم موقفها بين خيارات التصعيد والتهدئة في إدلب. ولو لم تكن موسكو واثقةً من ذلك لما أعطت الضوء الأخضر للنظام، ليحرّك القوات خارقا كل التفاهمات التركية الروسية. وكانت القوات التركية الروسية تنفذ دوريات مشتركة في إدلب وجوارها، انسجاما مع اتفاقية سوتشي. والاحتمال الأقرب اليوم أن تتحول القوات الروسية إلى قوات فصل بين القوات التركية وقوات النظام، لتكريس الاعتراف التركي بضرورة قبول الحوار والتفاوض مع النظام، وهي الخطة الروسية منذ البداية.
وتواصل روسيا تسجيل الأهداف في مرمى أنقرة في شمال غرب سورية، إما بتحريك النظام وحلفائه أو بالمشاركة المباشرة في العمليات العسكرية القتالية، غير آبهةٍ بتداخل الجبهات واقتراب القوات التركية والسورية من بعضها بعضا. تقول روسيا أساسا إنها والنظام يحاربان المجموعات الإرهابية التي تردّدت تركيا في إخراجها من المشهد، فلماذا تعترض واشنطن وأوروبا على خدمة تقدّم للجميع من هذا النوع؟
ويتحدث أردوغان عن حرب استقلال جديدة تخوضها تركيا. والمواجهة هذه المرّة ليست داخل الأراضي التركية، بل في سورية وليبيا وشرق المتوسط وأفريقيا، مناطق النفوذ الاقليمي التركي، إلا إذا كان هو يفترض أن المواجهة ستنتقل إلى تركيا نفسها في حال تردّدت أو تأخرت في الرد على ما يُحاك لها. وكانت المعارضة التركية تسأل الحزب الحاكم دائما: ما الذي نفعله في سورية ولماذا نحن هناك؟ المعارضة تسأل اليوم: ما هي وسيلة الخروج من سورية، وما هو الثمن الذي سندفعه مقابل ذلك؟ ويدعو حزب الشعب الجمهوري المعارض، في أعقاب اجتماع مطول له خصصه لملف الأزمة السورية، إلى عدم الدخول في مغامرة جديدة في سورية، ويحذّر من المواجهة العسكرية بين القوات التركية وقوات النظام، لأنه لا يوجد ما يبرّرها، ويذكر الحكم أن أولوياته ملف اللجوء وأمن الحدود التركية، وليست الدخول في المواجهات مع دول الجوار.
والمقلق اليوم أن تفقد أنقرة التي كانت تتحدّث عن امتلاك المنظومتين، الشرقية والغربية، للدفاع الجوي كلتا الفرصتين، إذا ما توتّرت العلاقات التركية الروسية أكثر من ذلك، وتمسكت واشنطن في رفض إرسال السلاح الذي قالت أنقرة قبل سنوات إنها لا تريد أن تكون تحت رحمة القرار الغربي فيه. لماذا ترسل واشنطن الباتريوت إلى تركيا، وهل تفعل ذلك من دون صفقة واضحة المعالم مع أنقرة، أهم بنودها الابتعاد مجدّدا عن مشاريع وخطط التنسيق الاستراتيجي مع موسكو؟ التوتر التركي الروسي لن يزعج واشنطن، بقدر ما يمنحها فرصة استغلاله لإضعاف الطرفين، وفتح الطريق أمامها لتتموضع أكثر فأكثر في المشهد السوري.
التصعيد في إدلب مستمر، ليس لأن قوات النظام لا تريد التوقف، بل لأن موسكو تأمرها بمواصلة التقدّم. قد تكون معركة إدلب الأخيرة في مسار الأزمة السورية، وقد يكون المطلوب من السوريين أن لا يتحاربوا بعد الآن، وأن يذهب كل طرف بمكاسبه الميدانية والسياسية إلى طاولة التفاوض. ينبغي أن يكون الحوار سوريا سوريا أمام طاولة إقليمية دولية بديلة مستعجلة، وغير ذلك مضيعة للوقت، وتشتيت للانتباه، وتعقيد في المشهد السوري أكثر فأكثر. ولا يُغفل عن أن قرار أنقرة الدخول في العملية العسكرية الواسعة ضد قوات النظام يعني رفضها هذه الصيغة التي تحمّلها وحدها أعباء الملايين من اللاجئين والنازحين، وقرارها قلع شوكها بأيديها مهما كان الثمن، فما الذي ستختاره؟ هل هدف كل هذه الحشود العسكرية التركية في إدلب هو إعادة قوات النظام إلى الأماكن التي انطلقت منها أم المساومة على إنشاء منطقة آمنة جديدة تحمي فيها نفوذها، وما يمكن أن تقدمه لحليفها المحلي بعد الآن؟ الاحتمال الأقرب هو تفاهمات آخر لحظة بين الأتراك والروس، وقبل انتهاء المهلة التي أعطتها أنقرة للنظام لسحب قواته إلى ما وراء خطوط تفاهمات سوتشي. مضمون هذه الاتفاقية الجديدة وأهدافها ستكونان أهم من قرار وقف إطلاق النار نفسه، لأنها ستشكل مرحلة ميدانية وسياسية جديدة في إدلب، تحمل معها مفاجآت كثيرة في مسار الحل للأزمة السورية.
تراجع التصعيد التركي الروسي يعني اقتراب موعد التفاوض الروسي الأميركي في سورية، وهو سيشكل أيضا مقدمة لإنهاء دور إيران والتفاهم على المرحلة الانتقالية، ومن دون ذلك لا تسوية أو بوادر حلحلة في ملف الأزمة السورية. ولم يعد في مقدور موسكو أيضا الدفاع عن بقاء نظام لم يعد المجتمع الدولي والتوازنات الإقليمية يريدانه.
المصدر: العربي الجديد