سمير الزبن
الحرب الإسرائيلية على الوجود الفلسطيني في لبنان عام 1982، وخروج منظمة التحرير من الأراضي الفلسطينية، شكلت نقطة انعطاف في التجربة الفلسطينية، فقد خسرت منظمة التحرير مركز ثقلها الرئيسي، ووجد النظام السوري في الضعف الذي شهدته منظمة التحرير التي خرجت منهكة ومشتتة الفرصة للإمساك بالورقة الفلسطينية في معادلة الصراع في المنطقة. أدرك ياسر عرفات، حتى قبل انتهاء الحرب، الشروط السياسية القاسية التي ستعيشها منظمة التحرير وفصائلها في اليوم التالي للحرب، وأدرك سعي النظام السوري إلى الإمساك بالورقة الفلسطينية، فعندما سأله الصحافي الإسرائيلي، يوري أفنيري، عن المكان الذي سيذهب إليه بعد الحرب، قال: “سأذهب إلى فلسطين”.. كان الجواب رمزياً ومراوغاً. وفي النهاية، قرًر عرفات نقل مقر قيادة المنظمة إلى تونس. وبعد انتهاء الحرب، دخل الخلاف السوري ـ الفلسطيني مرحلة جديدة. لقد نقلت الفصائل الفلسطينية الأخرى، مثل الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وغيرهما، مقرّاتها الرئيسية إلى دمشق، أما حركة فتح وقيادة المنظمة التي تهيمن عليها “فتح” فقد انتقلت إلى تونس، وإن بقي كثيرون من كوادرها في سورية، وجزء من القوات العسكرية على الأراضي اللبنانية في المناطق التي لم يصل إليها الاحتلال الإسرائيلي، في البقاع اللبناني وطرابلس. تفلت عرفات من القبضة السورية، بينما النظام أصرَّ على عدم تفويت الفرصة للإمساك بالورقة الفلسطينية، وعندما فشل في دفع عرفات إلى تسليمها إليه، طرد في العام 1983 عرفات من دمشق، واعتبره شخصاً غير مرغوب فيه. ولم يكتف النظام بذلك، عمل على شق حركة فتح وشق الصف الفلسطيني.
ولدت خلافات جدية بين الفصائل الفلسطينية بعد حرب العام 1982، إلا أن تغذيتها من النظام السوري للقبض على الورقة الفلسطينية دفع باتجاه شقّ حركة فتح وخروج حركة فتح ـ الانتفاضة، ومن ثم الدفع باتجاه اقتتال فلسطيني ـ فلسطيني، جرى على الأراضي اللبنانية تحديدا في البقاع وطرابلس، وأسفر في النهاية عن طرد عرفات من طرابلس في شمال لبنان. في تلك الفترة، ترك النظام السوري الأطراف الفلسطينية المتحالفة معه تعمل بحرية نسبية على أراضيه، طبعا ضمن رقابة أمنية مشدّدة، بحكم الطبيعة الأمنية للنظام. وفي المقابل، لاحقت الأجهزة الأمنية كوادر حركة فتح وحلفاءها على الساحة الفلسطينية، وزجّتهم في السجون، وقدر عدد المعتقلين الذين دخلوا السجون السورية على خلفية الخلاف السوري ـ الفلسطيني بحوالي خمسة آلاف.
شكلت السنوات التي تلت حرب العام 1982 المرحلة الأخيرة في مركزية الخارج الفلسطيني كمركز ثقل للعمل السياسي الفلسطيني، فقدت الحركة الفلسطينية آخر موقع رئيسي لها في الشتات، وكان الاستنتاج الذي توصلت إليه كل الفصائل هو انتقال ثقل الحركة الوطنية إلى الداخل. ومنذ نهاية الستينيات شكل الوجود الفلسطيني في سورية موقعاً أساسياً فاعلاً في التجربة السياسية الفلسطينية، وقد ساهم هذا التجمع مساهمة فعلية في تشكيل الوطنية الفلسطينية الحديثة. وقدم الفلسطينيون في سورية، ومنذ بدايات العمل المسلح، قافلة من الشهداء في كل المواقع التي خاضت فيها صراعات، مع إسرائيل ومع غيرها.
أعطى الوجود المكثف لفصائل اليسار الفلسطيني في سورية في الثمانينيات هامشا للعمل السياسي للوجود الفلسطيني في سورية، لم يكن متوفراً للسوريين في ذلك الوقت، ويبدو أن النظام كان على قناعةٍ بأن العمل السياسي في الموضوع الفلسطيني لا يشكل خطراً عليه، فالفلسطينيون ليسوا منخرطين ولا طامحين بأي شكل في الصراع على السلطة في سورية، كما هو العمل السياسي بين السوريين سيكون حكماً بهذا الاتجاه. لذلك تم تقييد العمل السياسي في أوساط السوريين إلى درجة الإلغاء. هذا لا يعني أن الوجود الفلسطيني في سورية لم يكن يشهد تضييقات، أو أنه لم يكن يدار عبر القبضة الأمنية، بل كان يعاني من كل ما يعاني منه السوري من تضييقات وضرورة الحصول على الموافقات الأمنية اللازمة ولجميع المراجعات الأمنية. ولكن في الشق السياسي الذي كان يتعلق بالخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية، كان الفلسطينيون في سورية يتمتعون بهامش عمل سياسي أكبر بكثير من السوريين.
كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987 الإعلان النهائي والعملي عن انتقال مركز ثقل الحركة الوطنية إلى الداخل الفلسطيني، ليس استنتاجاً، بل بفعلٍ اجتاح آليات كفاحية وإطلاق عمل نضالي في مواجهة الاحتلال، لم يعرف الاحتلال كيف يواجهها. بهذا الانتقال، أدركت التجمعات الفلسطينية في الخارج تراجع دورها، والذي بات يقتصر على دعم انتفاضة الداخل، وهذا ما بات يشعر به فلسطينيو سورية، على الرغم من وجود جزء رئيسي من القيادات الفلسطينية في سورية. ومنذ ذلك الوقت، بدأ الوجود الفصائلي يتحول إلى وجود هامشي، ومع صدماتٍ عديدة تلقاها الوجود الفلسطيني في كل من الكويت والعراق، والتحولات التي جرت في المنطقة من غزو العراق الكويت، ومن ثم الحرب الأميركية لإخراج العراق من الكويت، وكل هذه التحولات التي جعلت الموضوع الفلسطيني هامشياً. في مطلع التسعينيات، وجد الفلسطينيون أنفسهم يخوضون مفاوضات سرّية، أدت إلى اتفاقات أوسلو التي شعر فلسطينيو الشتات بخذلانها لهم، لأنها لم تلحظهم إلا بوصفهم موضوعاً مؤجلاً إلى مفاوضات الوضع النهائي التي لم تجر مطلقا، وأحسّوا أنهم خارج نطاق أي حل سياسي، وتخلت عنهم قيادتهم.
لقد شكّل الفلسطينيون جزءاً من التشكيل الاقتصادي ـ الاجتماعي السوري، بانخراطهم في سوق العمل على مستوى القطاعين، الخاص والعام، وهو ما منحهم إياه القانون السوري الذي عاملهم معاملة السوريين على هذا المستوى. ولكنهم على المستوى السياسي شكلوا حقلهم السياسي الخاص بهم، والساعي إلى إنجاز مهمات وطنية فلسطينية، باستعادة وطن مسلوب، لم يتمكّن إجمالي الوضع الفلسطيني في كل مكان من إنجازه. وقد عاش الفلسطينيون في سورية، طوال العقود الثلاثة المنصرمة، حالة من الانفضاض عن فصائل العمل الوطني الفلسطيني، بحكم الإحباط التي عاشته هذه التجمعات، حتى أصبحت تجربة الفصائل في سورية هامشية. ولذلك عندما انفجر الحراك السوري في مواجهة النظام، كانت الفصائل الفلسطينية، وبحكم البنية الرثة التي وصلت لها من تردٍّ سياسي وثقافي ونظري، غير قادرة على فهم ما يجري، وغير قادرة على التعامل معه. ووجدت التجمعات الفلسطينية نفسها تواجه مصيرها وحدها، في وقتٍ كانت مدفعية النظام وطائراته تدمّر المخيمات في سورية، كان متفرغو الفصائل يعقدون الاجتماعات، ويصدرون البيانات التي لا تقول أي شيء عما يجري، وتقف مع النظام في حربة على شعبه، بذريعة “التصدّي للمؤامرة الكونية”، وتتجنب بأي ثمن الإشارة إلى القاتل الفعلي للفلسطينيين والسوريين.
المصدر: العربي الجديد