سميرة المسالمة
بين أعداد ضحايا كورونا وضحايا الخطف والاقتتال في الجنوب السوري، سهلا وجبلاً، يمتلك السوريون القدرة على ابتلاع مصائبهم، ومواجهة أوبئة القدر المتلاحقة، فهم الذين تجاوزتهم إنفلونزا الخنازير، وإنفلونزا الطيور، وإيبولا، وسارس، وقبلهم الإيدز، من دون أن تعبر من مشافيهم، بل كانت فرصةً سانحةً لفقرائهم أن يجتمعوا على موائد هجرها أغنياؤهم تحت عناوين الخوف. ولهذا قد لا يبدو استعصاء حدودهم على وباء كوفيد – 19 (كورونا) بالأمر الغريب، فالأرقام ليست جزءا من حياة السوريين، سابقاً وحالياً.
وعادةً ما تكون الإحصائيات الحقيقية أحد ألدّ أعداء الحكومات التنفيذية الفاسدة، فالتعريف بأرقام نسب الفقر في سورية من الارتكابات التي قد تتساوى مع “جريمة” السعي إلى إسقاط النظام، وكذلك البحث في موارد الطبيعة، البترول والغاز وغيرهما، وحسابات الربح منها ومسارها، فالأرقام في سورية لا معنى لها، وعدّاد الموت المتصاعد في تلفزيونات العالم من وباء كورونا مجرّد خبر هزلي عن مشهد مسرحي لسنا شركاء فيه.
نعم، ليس في سورية أمواتٌ جرّاء وباء كورونا الذي يجتاح العالم، وما يتم نشره مجرّد مشاركة مجاملة مع الآخرين. نحن في سورية لا نموت بالجراثيم، ولا بغاز السارين، السلاح الكيماوي لم يقتل أحداً، وكذلك قنابل الأسد وبراميله. تابعوا نشرات الأخبار السورية وستعرفوا أن لا أموات في سورية. هذه الأرقام مجرد تفصيل في مؤامرة كبرى على دولة ممانعة، تواجه عدوا لا تمسّ قواتها العسكرية حدوده، وهو (العدو) لا يرى فيها أي خطر على وجوده.
سورية منيعة على الأرقام، وهي إن استخدمتها فستكون لمجاملة هواتها فقط، ولأن السوريين يدركون وباء الأرقام الخطير، فهم ينظرون حتى إلى درجات الحرارة في نشرة أحوال الطقس أنها مجرّد كذبة الأول من نيسان، ليس أكثر.
تلك اليد الصغيرة الممدودة من تحت أنقاض إدلب التي دمرتها براميل طيران النظام وروسيا ليست ضمن أرقام الضحايا، وكل مئات الآلاف الذين قتلوا، وعشرات آلاف المعتقلين والمغيبين قسراً، ليسوا إلا أعدادا في قلوب محبيهم، أما في سجلات النظام فهم جراثيم تم تطهير البلاد منهم، القتلى المعترف بهم فقط هم من يموتون بأيدي “المسلحين من غير جيش الأسد”، سواء كانوا تحت مسمّى المعارضة أو قوى المصالحة أو الفصائل المتطرّفة على اختلاف مستوياتها. هؤلاء قتلى يبحثون عن الثأر الذي يشرعنه التوقيت الملائم للنظام وأجنداته، ومنها ما يتم الآن لضرب أهم معاقل الهدوء الطائفي والمناطقي في سورية (درعا والسويداء). لذلك ما حدث بين المحافظتين وتبعاته الحالية ليس وليد مصادفة، لا زمناً ولا مكاناً، ففي وقتٍ وصل الصراع الدولي إلى آخر محطاته العنفية على الحدود السورية شمالاً، تتأجّج نبرات العنف المحلية وسط صمت النظام، وتحت رقابة أدواته على الحدود الجنوبية في منطقة تتنافس فيها قوتا التدخلين، الروسي والإيراني، على الهيمنة المجتمعية وعلى مواقع منافذ الحدود الدولية.
ليس جديدا استخدام ذراع العصابات المحلية لتأجيج الصراع بين مجتمعي الجنوب السوري (الحوراني والطائفة المعروفية)، اللذيْن كانا يمثلان حالةً توافقيةً يمكنها أن تمثل نقطة قوة متعبة، تزيد من أعباء النظام وإيران في محاولاتهما الهيمنة على الواقع الميداني في المحافظتين، درعا والسويداء، فحيث تحتمي درعا باتفاق المصالحة الذي ترعاه روسيا، وترفض بالتالي الخضوع لمطالب النظام بالعودة إلى دائرة نفوذه الأمنية، تتمسّك السويداء بعزل أبنائها عن جيش النظام، كي يتجنبوا الوقوع في إثم المشاركة في جريمة قتل السوريين المعارضين للأسد، ما دفع النظام إلى البحث عن حلولٍ تمكّنه من نشر الفوضى المتبادلة بين المحافظتين الجارتين والمتداخلتين، ومنها:
ارتداء قفازات “العصابات المحلية” المتخصصة بالخطف والقتل والمساومات على المال من أبناء المحافظة، ورعايتها عن بُعد، لإبعاد الشبهات عن النظام في عمليات التأزيم المناطقي، في وقت يدرك أن أيا من أبناء المحافظتين العشائريتين لن تُبقي الأمر في دائرته الصغيرة، ما يعني أنها مفتاح بوابة جحيم جهنم الذي أعدّه النظام لأهالي المنطقة، بعيداً عن ترك أدلة إدانته أمام حليفه الروسي، بل ترك حليف روسيا (أحمد العودة) من نجوم المصالحات معها في واجهة الخلاف، ما يبرد نار إيران الحليف الآخر الذي يجد في نشر الفوضى معبراً للدخول، منقذا أمنيا يطفئ نار الثأر المشتعلة بين المحافظتين.
دراسة الصور والفيديوهات التي تنشرها العصابات الخاطفة، وطرق التعذيب المهينة والمثيرة لأحقاد الناس، ليست تسريباً بغرض تسريع عملية جمع الفدية، إنما هو درس مساوٍ لما كانت قد تعمّدته أجهزة الأمن في تسريباتها عن أساليب تعذيب المعتقلين في سجونها، ما يفرض على كل العقلاء في المحافظتين استعادة أمانهم المجتمعي، بالتعاطي مع الأمر الواقع عدوّا مشتركا لهما معاً ضد الآخر، وليس بينهما. ما يوجب البحث عن حلول فعلية تتجاوز البيانات المتبادلة، سواء بيانات التعريف بالجرائم المرتكبة التي صدّرها ما سمي بيان أحمد العودة، أحد قادة ألوية الفيلق الخامس التابع لروسيا، أو بيان رجال الكرامة الذي يختصر مشكلات واقع أليم تم التخطيط له بعناية وإدراك، ليتم اختصار آثاره السلبية كلها فقط بشخص العودة، ما يبعد المحافظتين عن واقعية الحل الممكن حالياً، فالضحايا الذين سقطوا من الجانبين من الأبرياء ليسوا آخر ما تخطط له هذه الفتنة، أو هذا التفجير المصطنع الذي يُراد منه أن يتقوقع كل طرفٍ داخل حماية أحد طرفي الاحتلال في سورية، ما يبعدهما عن أن يكونا ضمن المحسوبين على الحل السوري الوطني، والتعاطي معهما من خلال من يحميهما جهة روسية، وأخرى إيرانية، تسعى إلى أن تكون مكانها، من خلال عصابات الخطف والجريمة هناك، في قلب سورية الأبيض، أو ما تسمى سويداؤها، وهو ما يجب أن تتصدّى له المحافظتان، بالتعاطي مع المجرمين باعتبارهم مجرمين، لا ممثلين للمحافظتين شعباً، أو حتى حدوداً.
المصدر: العربي الجديد