أحمد مظهر سعدو
يقال عنه شاعر شواه الضوء لسنوات عديدة.. قصائده وبسبب أحزانها وأيامها المدماة.. جال الناس كل الناس في فضاءاتها.. وإذا كان البعض كتب عنه تحت عنوان (محمد الماغوط: وطن في وطن) فإنه من المسرحيين والشعراء الذين سيتركون أثراً كبيراً في الساحة الأدبية والشعبية لفترات طويلة.
لقاؤنا اليوم مع محمد الماغوط في منزله (حي المزرعة) بدمشق.. يعبر عن حال الأمة بعبارات مختصرة ودون تكليف.. بساطته المتناهية وعفويته الواضحة.. جعلتنا بل وشجعتنا على الغوص معه في عمق تجربته وبأسئلة صريحة صراحة الماغوط.
فشاعرنا محمد الماغوط موجود في ضمير الناس وهو الذي انفجر في المشهد الشعري في خمسينات القرن الماضي كقنبلة. حاورناه وكان هذا الحديث:
يقول أحد الأدباء الذين كتبوا عنك “لو لم يولد محمد الماغوط في تلك الغرفة المسدلة الستائر ما كان قد أصبح الماغوط الذي عرفناه” ما تعليقك على هذا الكلام؟
– لا أعرف، ولكن كل واحد له قناعته فيجب أن يواجه ما حوله بكل ما يستطيع.
كنت ومازلت كاتباً مسرحياً ودرامياً ساخراً، بل ولاذعاً.. فهل ترى أن الواقع العربي يستحق كل ذلك؟ أم لعله يستحق أكثر؟
– هذه وجهة نظر، ولكل كاتب وجهة نظر.. وهو يعرف من أين يرى الأشياء، ونحن الآن في هذه الغرفة قد ترى أنت التمثال كحالة فنية راقية أما أنا فأراه مجرد قطعة من الحجر ليس إلا.
تقول زوجتك الأديبة الشاعرة الراحلة (سنية صالح): “بقدر ما تكون الكلمة في الحلم طريقاً إلى الحرية نجدها في الواقع طريقاً إلي السجن” إلى أي حد أنت متفق مع الراحلة زوجتك في هذا التوصيف؟
– الإنسان العربي عبر التاريخ لم يعرف الحرية ولم يجربها في أي فترة من الفترات لذلك هو يتخيلها مجرد تخيل.
وهل هناك طريق معين للحرية؟
– الإنسان العربي لم يعرف الحرية.. ولن يعرفها بدون ديمقراطية.. وبدون ممارسة هذه الديمقراطية بكل مساوئها، لأن أسوأ كلام أفضل من أجمل صوت.
أعمالك التي تركت أثراً حفرته في الصخر.. فمن “حزن في ضوء القمر” إلى “غرفة بملايين الجدران” و”الفرح ليس مهنتي” و”العصفور الأحدب” إلى “المهرج” أين يتموضع محمد الماغوط أكثر ضمن هذه الأعمال؟
– أنا موجود في جميع هذه الأعمال، وليس هناك خصوصية لعمل معين، ولكن دائماً الطفل الصغير أقرب للقلب، وأنا أحب “العصفور الأحدب” لأنه طفلي الصغير المدلل.
هل مازلت تحمل الإصرار على كشف عورات المجتمع العربي؟ بل والسياسة العربية برمتها؟
– طبعاً أنا ولدت ورأيت الخلل في العالم، وأنا لست إنسانا حياديا، ولأن الإنسان الحيادي لا يساوي أي شيء، وأنا مجابه.. فلا أنتظر الأحداث والسيل حتى يبلعني.. لا.. بل أواجهه، وأجر المجاذيف بالقلب طبعاً.
قيل بأن أمل دنقل.. كان يدمن قراءة أعمالك وخاصة “الفرح ليس مهنتي” برأيك ما الذي جعله يدمن ذلك؟
– كل الكتّاب صادقون وعائلة واحدة، وإنما كما يقولون فهناك فلسطينيي الشتات، ونقول نحن كتّاب الشتات، ولكنهم يتفقون بالجوهر، وليس هناك معرفة بيني وبين أمل دنقل ولم ألتق به قط، ولكني أحبه، فهو صادق وأمين لكلمته ومبادئه.
يعتبر البعض أنك من يكتب قصيدة النثر التي تتجاوز التراث العربي.. ويرى البعض أن قصيدة “الشعر الحر” لها الأفضلية والمستقبلية.. فماذا ترى يا أستاذ؟
– أنا أكتب نصوصًا، ولا أتعمد كتابة الشعر وليس عندي مذهب شعري خاص فيَّ ولا مدرسة، ولكن الأقرب لطبيعتي، فطبيعتي عصبي.. وانفعالي.. ولا أنتظر الطبخة حتى تبرد بل آكلها ساخنة.
في قصيدتك.. “أمير من المطر وحاشية من الغبار” شبهت نهر بردي الرائع بمتسول عجوز فقد الرغبة في العيش والحياة، فكيف ترى الحياة هكذا وأنت من علمنا التفاؤل؟ ولماذا؟
– الحقيقة لا أعرف، ولا أحسن وصف شعري ونصوصي ولا أن أفسرها مثلما تريد.. فأنا أكتب كما أحس، وليس لي علاقة بالنقاد، والنقاد معظمهم شعراء فاشلون.
كيف تكون ردة فعل الأديب محمد الماغوط عندما يرى أن هناك من يسرق أدبه ويدخل في مسألة “التناص” مع أعماله؟ وهل تفرق بين السرقة والتأثر؟
– نتاج الأديب نهر، وبالنسبة لي ما يؤخذ مني هو خط النهر وأنا البحر، ويسعدني أن أحداً ما يأخذ مني ثم يتجاهلني، والمهم عندي هو أن تصل كلمتي، وليس عندي مشكلة الوعاء.
يقول بعض النقاد أن الشاعر محمد الماغوط قد استفاد من شعر صلاح عبد الصبور، ويستشهدون على ذلك بديوانك “الفرح ليس مهنتي” وديوان صلاح عبد الصبور “أحلام الفارس القديم” ما ردك يا أستاذ محمد؟
– هذا الكلام غير صحيح، وبالعكس فصلاح عبد الصبور له رأي، ونُشر بجريدة “الخليج” في الثمانينات يقول فيه: أن طه حسين ومحمد الماغوط يمثلان ما يمكن تسميته ب(شاعري النثر العربي)، لذلك أنا لا أوافق على هذا، “فالفرح ليس مهنتي” كل موضوعاته ليس لها علاقة بموضوعات صلاح عبد الصبور، فهو يعتمد الأساطير والحكاية الشعبية أما أنا فلا أستعمل الأساطير، وإنما أتعاطى مع الواقع الذي أراه فأكتبه مباشرة وبلا توقف.
كنت ومازلت كاتباً متمرداً على هذه الأوضاع العربية البائسة.. وماذا بعد هذا التمرد؟
– سنستمر، فهناك ناس يسقطون من ثاني شوط أو يستمرون حتى الرابع، ولكن أنا أرى هذا قدري وقدر أمتي أن نستمر في التمرد.
وهل يكفي التمرد؟
– هناك أناس تحارب بالحجارة وأناس بالرصاص، وتمردي أنا يكون عبر الكلمة.
معروف أنك لم تتلق رشوة من أحد.. وأنت ذو استقلالية معروفة.. كيف تنظر إلى الكتاب والأدباء اليوم الذين يتلطون على أبواب السلاطين؟
– في كل العصور يوجد الأصيل ويوجد المزيف، ويوجد المستمر والمخلص ويوجد الطارئ، بالإضافة إلى أنه وحتى في الصين أو في ، فالشعراء المميزون ثلاثة أو أربعة.
وهناك شاعر ناقد وبروفسور أسترالي قال: (وهو إطراء أستحقه.. أو لا أستحقه لا أعرف).. “أنه عبر العصور يوجد شعراء كثيرون لكن مثل محمد الماغوط لا يوجد”.
هل تعتبر نفسك محسوداً من قبل أصحاب الكراسي.. وسواهم من أدباء البلاط؟
– نعم.. ويوجد حقد عليّ.. فأنا في معركة من أجل كرامة الإنسان وحريته، وأي معركة جانبية تشغلني فهي مرفوضة.
قيل إنك تكتب مسلسلاً جديداً للتلفزيون السوري.. ماذا ستقول في هذا المسلسل بعد كل هذه الهزائم؟ وما اسمه؟
– نعم هو في طور الكتابة، وفي الستينات كان عندي مسلسل “حكايا الليل” ورأينا الآن أن الأحداث تستدعي أن نطور هذا المسلسل لأنه لاقى رواجاً جماهيرياً كبيراً، فأنا أعطي الفكرة وهناك كتّاب سيناريو تحت إشرافي هم الذين يعدون السيناريو، وأنا في الواقع استشير “أجير البقال” ولا أخجل، ولكن ما عدا المسؤولين، فأي مسؤول يقدم إطراء لعملي فإني أشك في هذا العمل.
وما فكرة هذا العمل؟
– في كل حلقة موضوع جديد، يطرح العلاقات البشرية الأسرية.. الحب.. العاطفة.. الاستغلال.. الرشوة.. المعششة بالعالم الثاني والثالث وبالوطن العربي خاصة.
هل ستلامس السقف والممنوعات في هذا العمل؟
– أنا لست عنترا ولست المسيح.. ولكني لست يهودا.
ابتعدت عن دريد لحام.. لماذا؟ وهل من محاولات عودة لجماهيركم التي أحبت أعمالكم؟
– لا أريد التكلم في هذا الموضوع.
بعد سقوط بغداد المدوي.. هل سيسقط الشعر هو الآخر.. أم العكس؟
– أنا أحكي عن أمة.. وليس فقط سقوط بغداد، فهناك أيضاً هزيمة حزيران، فأنا أعتقد أنه حيث يوجد ضوء توجد حرية، وأي بلد مظلم فهو من دون حرية.
وفيروز أعتبرها وطنا وهناك بلد طويل عريض لديه جمارك وحدود وإذاعات لكني لا أعتبره وطنا.. لأنه دون حرية.
الحرية .. الحرية المفقودة في الوطن العربي.. ما هي أداتها يا أستاذ؟
– الديمقراطية، والفكرة لا تأتي بطبق من ذهب، وكل إنسان في الوطن العربي له دور وذلك حسب طاقته وحسب إيمانه، وإذا لم يوجد إيمان بشيء لا يخرج شيء إلى النور، وكما قال أنطون سعادة: مجموعة العقاقير لا تصنع طبيباً.
وهل أنت مع الحوار الذي يدعو له المثقفون بين كل الأطياف والشرائح؟ وما أدواتك فيه؟
– أنا لست حزبياً ولم أكن حزبياً في يوم من الأيام ولكني أعتبر أن كمال خير بك وغسان كنفاني اختارا طريق الرصاص وأنا اخترت طريق القلم.
ولكل إنسان عربي ومناضل عربي فلسطينه الخاصة به.
وكيف ترى أهم عوامل نجاح المسرح؟
– في إحدى المرات قال لي (جورج مالي) وهو أكبر مسرحي في العالم قال: “مسرحيتك (المهرج) فيها ألف خطأ أكاديمي ولكني حضرتها ثلاث مرات”.. لذلك فإنه ليس بالضرورة أن يكون الذي في الكتاب هو الصحيح أو الصح، الصدق أهم شيء في الوجود، كيفما قلته المهم الصدق.. سواء كان في الغابة أو على السطح، أقلته بالعامية أم بالفصحى.. الصدق في العمل المسرحي أو في غيره أجمل شيء ويصل للناس فوراً.
ولماذا لا نصدق الحكام أو نحبهم.. لأنهم كاذبون رغم كل البهارات من شاشات تلفزيون وتزيينات أو حتي راقصات.
المصدر: الراية القطرية
تاريخ النشر 28 / 3/ 2004