د. أحمد حمّود
رغم موجة فيروس الكورونا، يتواصل الحراك الثوري في لبنان (وفي العراق أيضاً)، وبموازاته تتواصل المحاولات وتتزايد التشكيلات لاحتوائه أو لإخماده أو لاستغلاله وتجييره لمصالح أقلّها ما دون وطنية. وهذا من طبائع الأمور في المجتمعات والدول والعلاقات الدولية، لأن الفراغ يجعل الباب مفتوحاً لجذب وتشجيع أيّ كان من الطامحين والطامعين على السعي لملئه. إذ بعد مضي أكثر من ستة شهور، ما زال هذا الحراك الشعبي “ثورات” متعددة ولم يصبح بعد “ثورة” واحدة، بصرف النظر عن حجم نشاطاته، وعن أنه يعتمد على مجموعات منظّمة أو شبه منظّمة تُمارس درجةً من التنسيق.
لكن هذه الدرجة لا تصل الى ملئ الفراغ في تأطير الحراك وتصعيده الى مستوى “ثورة” واحدة. ونستدرك بالقول إن وحدة “الثورة” لا تعني بالضرورة حزباً أو تنظيماً أو منظمةً مركزية عامودية، تبرز فيها الزعامات والوجاهات وتغيب الديمقراطية، وتتحول القوى الشعبية الى “مفعول به” رغم أنها هي “الفاعل” على الأرض.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنه، في يومٍ ما، تجاوزت الحشود المليون ونصف، وأن الظروف التي دفعتهم الى الثورة أصبحت أكثر سوءًا، فإنه ربما يصح القول بأن من نتائج غياب التأطير التوحيدي، بقاء مئات الآلاف في بيوتهم رغم أنهم ليسوا أقلّ ثوريةً ولا ثوراناً من الناشطين في المواقع والساحات. طبعاً في الظروف الحالية، ثمة سبب آخر للبقاء في البيوت ألا وهو جائحة الكورونا.
وفي الواقع، رغم وجود تشكيلات سابقة تسعى للتغيير، ورغم تراكم النشاطات الاحتجاجية والانتفاضات، فإن حراك 17 تشرين الثوري تميّز بمشاركة عفوية واسعة للقوى الشعبية المتضررة من الاستبداد والفساد والطائفية والإفساد. فتضافرت العفوية مع الحشود الضخمة لتؤمّن نوعاً من الحماية للثوار في الفترة الأولى، لكن استمرارية الاحتجاجات وتعرضها لقمع واعتداءات القوى الأمنية والطائفية ألغى مفاعيل العفوية والحشود. ثم فُتِحَ الباب أمام سعي الطامحين والطامعين، داخل السلطة وخارجها، لركوب موجة الحراك بهدف الالتفاف عليه أو إخماده أو على الأقل تقزيمه وتقزيم أهدافه.
ولقد كان من الطبيعي أيضاً أن يتحفظ الثوار ويتوجّسوا من تنظيم حراكهم وفرز قيادة لتأطيره، على الأقل بسبب الخشية من أمرين: الأول، هو السقوط في حبائل ومكائد وإغراءات السلطة وحاشيتها والقوى المستفيدة منها. والثاني، هو الضياع والتشتت في لعبة التنافس إن لم نقل الصراع على المناصب والزعامات. لكن هذا غير كافٍ لتبرير عدم الانتقال الى بلورة تشكيلة وطنية واسعة تجسّد، في نفس الوقت، وحدة الثورة وتنوع وتعدد قواها في مواجهة الطبقة الفاسدة الحاكمة.
نشدِّد هنا على أن هذه الطبقة لا تقتصر فقط على أركانها في سدّة السلطة، وإنما تشمل أيضاً محيطها وحاشياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المشاركة في الفساد، والمستفيدة من التركيبة القائمة بحماية ومشاركة “الدويلة المسلّحة.” ولا ننسى طبعاً أن هذه الطبقة تسيطر على كل أجهزة وإدارات الدولة ومراكز القرار وعناصر القوّة، وتتميز بشدّة التنظيم وقوّة الروابط والمصالح المشتركة فيما بينها، في إطار نظام المحاصصة الطائفية الذي سبق وسمّيّناهُ “نظام الزعيم/الطائفة/العشيرة.”
ووحدة هذا النظام لا تلغي كل ما يسوّقه أركانه من خلافات وخطابات ومواقف تحريضية، ضمن إطار اللعبة التقليدية، أي لعبة التحشيد الطائفي الفئوي لإعادة تعبئة وإخضاع أتباعهم وأزلامهم “وجمهورهم.” يُذْكَر هنا أن هذا التحشيد يحصل، في معظم الأحيان، وفق قاعدة “الفعل وردّ الفعل”، بحيث أن “الفعل” يكون مقصوراً على خطاب طائفي لزعيم واحد، وهذا بحد ذاته كافٍ لاستفزاز “ردود الفعل” من جمهور كل الأطراف الأخرى، مما يُشيع الاستنفار الطائفي في البلد كلّه.
وَمِمَّا تجب ملاحظته منذ تشكيل الحكومة الحالية، أن الحراك فقد زمام المبادرة لصالح السلطة. وهكذا فإن نفس قاعدة “الفعل وردّ الفعل” تتحكم أيضاً في مواصلة معظم الاحتجاجات والتظاهرات التي تحصل ليس “كفعل” ثوري وإنما “كردّ فعل” على قرارات أو إجراءات أو ممارسات أو أعمال الطبقة الحاكمة. وهذا يعطي الانطباع وكأن شعار “كّلن يعني كلّن” انتهى بتغيير الحكومة ثم بإشغال الثوار وكل النَّاس بمشاكل المصارف والتصريف والجوع والكورونا، بعيداً عن إسقاط كل أركان السلطة بدءاً بالرؤوس الثلاثة. أليس هذا نتيجة من نتائج الفراغ في تأطير وتنظيم فعاليات وطاقات الثوار؟
إذن الفراغ ما زال قائماً نتيجة عدم تطوير ورفع مستويات التنسيق بين مواقع وساحات وقوى الثوار، منذ عدة شهور من التذبذب صعوداً وهبوطاً في فعاليات الحراك وحشوده، وخاصّةً في ظل الكورونا التي فرضت نفسها وفرضت أيضاً إجراءات التباعد الاجتماعي.
وعليه إذا أخذنا بعين الاعتبار عدم القدرة على إشغال الساحات والمواقع على امتداد الوطن بحشد عشرات الآلاف على مدار الساعة، هل يُمكن مواجهة هذه الطبقة الفاسدة وإسقاطها بدون عمل دؤوب منظم ومتواصل ؟ وكيف يُمكن ضمان نجاح هذا العمل بدون تبنّي خطة عمل مبنية على عدة محاور مترابطة أهمها : تأطير وتنظيم الحراك الثوري، وتطوير آليات وأدوات وأشكال مواصلته، والتوافق على سلّة حقوق ومطالب واقعية موحّدة ؟ ألم يئن الأوان لإحداث نقلة نوعية، خاصة بعد تجاوز فترة الكورونا، من مستوى التنسيق في “ردود فعل” الثوار الى مستوى “الفعل المنظم” المتميّز بالمبادرة ؟
إن إطلاق دينامية التغيير باتجاه إسقاط نظام “الزعيم/الطائفة/العشيرة”، يستلزم فوراً استثمار الفترة الحالية من أجل تهيئة الظروف لهذه النقلة النوعية الى مستوى العمل المنظّم، ضد طبقةٍ عالية التنظيم تهيمن على معظم إن لم نقل كلّ مواقع وعناصر القرار والقوّة في السلطة وخارج السلطة. إننا نقترف خطأً تاريخياً ونعطّل التغيير المنشود، إذا واصلنا حرمان الحراك الثوري من تطوير التفاعل والتنسيق بين كل المواقع والساحات والقوى ومن الانتقال الى العمل المخطط المشترك باتجاه أهداف محددة متفق عليها.
من هنا، لا بدّ من العودة لانتزاع زمام الفعل والمبادرة على المستوى الوطني، مما يستدعي الإطلاق الفوري لورشةٍ وطنية شاملة ومتزامنة لفرز وتشكيل “هيئات تمثيلية محلية”، وهذا فرضُ عينٍ على كلّ من شارك في مليونية تشرين. ثم تنبثق عنها “هيئة وطنية لممثّلي الثورة” تضم مثلاً حوالي مئة ممثّل من كل القوى والمواقع والساحات التي تلتزم بحمايتهم من ترغيب وترهيب السلطة وأجهزتها… ونقول “ممثّلون” للحراك الشعبي، وليس نوّاباً أو زعماءً أو وُجَهاءً، يحملون ويتحمّلون أمانة تمثيل ساحاتهم ومناطقهم، ويحتمون بها ويعبّرون عنها، ويخضعون لرقابتها ولمحاسبتها ولإمكانية نزع الثقة عنهم عند الضرورة.
إن “ظروف الكورونا” تدفعنا لاقتراح أن تكون الخطوة الأولى في هذه الورشة، فتح النقاش والتفاعل والحوار حولها على مواقع وعبر وسائل التواصل الاجتماعي. فَمَنّ يبادر بإطلاق هذه الورشة؟ “عروس الثورة” مثلاً؟