جهاد عدلة
طبيب سوري كريم: متدين، وخلوق، وذو سمعة حسنة، وصاحب كفاءة في اختصاصه، وقد تجاوز الستين عاما، قال لي في محادثة هاتفية طويلة تطرقنا فيها إلى موضوع كورونا: موضوع الحظر طال، ويجب فتح البلاد، واتباع سياسة مناعة القطيع”، فقلت له: ولكن ذلك سيودي بحياة الكثيرين وخصوصا كبار السن، فرد علي: الأكثرية من المصابين يتجاوزون الجائحة، ونسبة قليلة جدا تموت، فقلت له حتى لو كانت نسبة الوفَيات ١%، وهي أكثر من ذلك، فلا ينبغي اتباع سياسة مناعة القطيع، لأن القضية أخلاقية، وهذا الواحد بالمئة يصبح ١٠٠ بالمئة إذا ترك للموت مع القدرة على إنقاذه عبر وقايته وتجنيبه الإصابة، فمن قتل نفسا كأنما قتل الناس جميعا.
حقيقة لا ينبغي أن تمر هذه المحادثة مرور الكرام، بل ينبغي التوقف عندها، وقراءتها في سياق تحول فكري واجتماعي يصيب بنية العقل المسلم، بفعل العولمة، والخضوع لأنماط التفكير الغربي ذي الطابع المادي، خصوصا وأن هذا الطبيب، ليس من فئة المجتمع العادية، وإنما صاحب تاريخ طبي، ولديه المال، ومن الطبقة الدمشقية الرفيعة، وفوق ذلك صاحب دين وخلق كما أسلفنا.
كيف لمسلم، مؤمن، وذي خلق، أن يستهين بالروح البشرية لولا الغفلة التي أصابته، وشروده عن غايات الدين الذي يتعبد الله به ومقاصده؟!
ما قاله طبيبنا المحترم تجسيد عملي صارخ لاستلاب العقل الذي تعيشه شرائح كبيرة من المسلمين، ولمنطق العلمانية المقنعة، التي يختفي فيها تأثير الإسلام من حياة الناس: في تصوراتهم، وفي أفكارهم، وفي قناعاتهم، وفي مقاربتهم للمصلحتين قصيرة الأجل وطويلته، أقول يختفي تأثير الإسلام وراء المنفعة المادية.
وليس صاحبنا بدعا من المسلمين، فهذا ديدن كثير منهم، إن لم يكن أكثرهم، بفعل طبيعة النشاط الاقتصادي اليومي الذي تسوده روح الدعة والميل إلى تحصيل المنافع ووفرة المال، في صراع نفسي عنيف مع القلق من المستقبل الغامض، وهو صراع يتغذى وينمو في بيئات عربية وإسلامية تنزع فيها التشريعات والقوانين، في ما يبدو، لصالح تقوية الدولة وآلتها ودورها، في علاقتها بالشعب.
وهذه القوة باتت في عرف الدولة ضرورية، إن لم تكن قضية وجود، بسبب الصراع المشتعل خارج الحدود، بحثا عن تقوية نفوذ دولي، أو تأمين حدود، أو صيانة أمن قومي، وفق قواعد سياسة دولية تلتهم الصغير والضعيف، وتصفق للقوي والكبير وتمنحه مزيد امتيازات ومنافع.
الخاسر الأكبر في كل ذلك: صفاء التصور الإسلامي ونقاؤه للكون والحياة والإنسان والاقتصاد والاجتماع والسياسة، في عقل الإنسان المسلم ووجدانه، وهو صفاء حاسم على طريق استعادة الإسلام، كعقيدة وشريعة وأحكام وآداب وأخلاق، مكانته الطبيعية في العالم، وهي الريادة والقيادة ولا شيء غيرها.
بين غمضة عين وانتباهتها نرى العَلمانية، بأفكارها وتطبيقاتها، تقتحم على المؤمن عقله وفكره ونظرته، وكل ذلك وسط تراجع الإسلام عن مركز التأثير، أو بعبارة أدق: وسط الحيلولة دون خروج الإسلام من المسجد.