بكر صدقي
تتوالى الأخبار القادمة من سورية وبخصوصها في غير ما يشتهي نظام الأسد وحلفاؤه. وكأن ما كانت تغطيه أصوات انفجارات القنابل والصواريخ فوق رؤوس المدنيين والمرافق الصحية والمدنية، صار يسمع بصورة مضخمة. فقانون سيزار الذي يتضمن تدابير اقتصادية قاسية قد بدأ مفعوله قبل نفاذه عملياً، ومظاهرات السويداء التي رفع فيها شعار اسقاط النظام وعلم الثورة بدت وكأن بواكير الثورة السورية في آذار 2011 قد عادت بكل زخمها، والهبوط الحاد والمتواصل لقيمة الليرة السورية يعطي الانطباع بأنها باتت في خبر كان، ومعها الاقتصاد والاجتماع السوريين ككل، ليبقى فقط شبح نظام متداعٍ ينتظر من يطلق عليه طلقة الرحمة.
مدينة السويداء التي شهدت، في مطلع العام الحالي، مظاهرات مطلبية ووجهت من قبل النظام بالتخوين، فانكفأت، ثم طواها النسيان بفعل دخول فايروس كورونا إلى المشهد، عاد نشطاؤها إلى الميدان مجدداً، رافعين هذه المرة، شعارات أكثر راديكالية. كان لافتاً بطء استجابة النظام تجاه الموجة الجديدة من المظاهرات، بطء فسره البعض بعدم رغبة النظام في مواجهة مكون أهلي محسوب على الأقليات المذهبية. لكني أكثر ميلاً إلى تفسير ذلك بالإنهاك المعنوي الذي أصاب النظام وأدواته القمعية، بفعل توالي الأحداث المثبطة في الأسابيع الأخيرة، مما أضفى على أدائها نوعاً من البلادة الحميدة.
فـ»مجتمع النظام» إذا جاز التعبير، الذي لم يصح بعد من صدمة الحملة الإعلامية الروسية على رأس النظام، تلقى صدمة انشقاق رامي مخلوف «من عظام الرقبة»، ليترنح بفعل استباحة روسيا لأراضي الساحل بقرار من الرئيس الروسي الذي رسم سفيره في دمشق ممثلاً له مقيماً في العاصمة جاثماً فوق صدر النظام، ثم دخل نفق اليأس مع اقتراب تطبيق قانون قيصر وسقوط الليرة السورية سقوطاً حراً بلا قرار. وهكذا سرعان ما نسي المجتمع المذكور أهازيج النصر التي كانت تسكره، قبل أقل من سنة، واعدةً إياه بمستقبل وردي من «خيرات» إعادة إعمار موهومة، فرأى أن «صموده» طوال تسع سنوات في وجه المستقبل لم يثمر استيلاء منه عليه، بل جاء بنتائج أسوأ من أسوأ كوابيسه.
أمام هذا الوضع، انتعشت سيناريوهات كثيرة حول ترتيبات دولية مفترضة بشأن طي صفحة نظام الأسد، تدور غالباً حول وصول القيادة الروسية إلى نهاية الطريق في تمسكها ببشار الأسد واضطرارها للبحث عن بديل له من داخل النظام يفتح الباب أمام تسوية سياسية تبقي على النظام وعلى المصالح الروسية في سوريا ما بعد الأسد. ويتم تعزيز هذا السيناريو بحراك أمريكي يلاقيه، من خلال الضغط الهائل الذي سيشكله تطبيق قانون قيصر، وإعادة فتح القنوات الدبلوماسية بين واشنطن وموسكو من أجل التوافق على تسوية سياسية في سوريا، تلحظ ضمناً الوضع الخاص في منطقة الجزيرة التي تحظى بحماية القوات الأمريكية، الأمر الذي رأينا مؤشراته من خلال الحوار الكردي – الكردي الذي تشرف عليه الولايات المتحدة وفرنسا بخصوص مستقبل الإدارة الذاتية في تلك المنطقة الشاسعة التي تحتوي على أهم ثروات المواد الخام في سوريا من حبوب ونفط.
أما إيران فهي الغائب الحاضر الذي لا يمكن تجاهله، فوجودها في سوريا مستهدف من واشنطن وتل أبيب، مع عدم اكتراث روسي وتركي. أما تركيا التي حقق تدخلها في ليبيا نتائج ميدانية لمصلحة حليفها المحلي، حكومة الإنقاذ، فهي ماضية في فرض وقائع على الأرض في المناطق التي تسيطر عليها في شمال سوريا: من إدلب إلى عفرين ومثلث درع الفرات والمستطيل الواصل بين تل أبيض ورأس العين، بتعزيز قواتها العسكرية من جهة، وإدخال الليرة التركية إلى التداول في تلك المناطق بدلاً من الليرة السورية المنكوبة من جهة أخرى.
وفي حين تتنازع الرأي العام المعارض مشاعر متباينة من مفاعيل قانون قيصر على السوريين العالقين في مناطق سيطرة النظام، بين متحمس يرى فيه مدخلاً محتملاً لتغيير النظام، ورافض مستاء من آثاره الكارثية على حياة ملايين السوريين، فثمة اتفاق على أن المسؤولية الأولى في خراب سوريا ومأساة السوريين تقع على عاتق نظام مجرم متصلب يرفض تقديم أي تنازل لشعبه. فحتى قانون قيصر نفسه إنما يطالب النظام بأمور هي نفسها بعض مطالب الشعب السوري، كإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والتعاطي بجدية مع التسوية السياسية وفقاً لقرارات مجلس الأمن والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى كافة المناطق، شروطاً للتخفيف من عقوبات قانون قيصر وصولاً لإلغائه. فإذا كان الحرص على معيشة السكان هو الدافع وراء رفض الرافضين لقانون قيصر، فالأحرى بهؤلاء إلقاء اللوم على نظام مستعد أن يجوّع شعبه على ألا يطلق سراح سجناء لن يشكلوا أي خطر عليه. نظام يرفض الامتثال لقرارات مجلس الأمن التي لا مفر من الامتثال لها في نهاية المطاف، إلا إذا كان يراهن على الإفلات من موجباتها كما أفلتت إسرائيل قبله.
بدلاً من التعامل بجدية مع هذا الوضع الكارثي، يستعد النظام لإجراء انتخابات مجلس الشعب التي سبق وتم تأجيلها بسبب وباء كورونا، في مطلع شهر تموز المقبل. وبدلاً من مراجعة «السياسة» التي اتبعها طوال تسع سنوات في مواجهة الحراك الثوري، عاد إلى الطريقة الوحيدة التي يعرفها في مواجهة مظاهرات السويداء، أي القمع واعتقال النشطاء وتنظيم مسيرات مضادة.
اعتدنا على وصف هذا الوضع بانفصال النظام عن الواقع. اليوم وقد بلغ هذا الانفصال درجات غير مسبوقة يمكن التساؤل عما إذا كان النظام موجوداً في سوريا أم هو في كوكب آخر؟
المصدر: القدس العربي