عبد الباسط حمودة
قانون قيصر لا يهدّد الشخصيات فحسب، وإنما هو دليل أميركي إلى المحاسبة والمواجهة بالعقوبات والعقاب، وبالتالي فرض عقوبات شديدة على النظام السوري بسبب الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين على مدى السنوات الماضية، ومنع كل أشكال التعامل معه ودعمه، ومعاقبة كل من يفعل ذلك أو يحاول، وأن يحقق ما عجزت عنه الوسائل الأخرى، بما فيها العسكرية، أي إسقاط النظام.. كيف يتحقق ذلك؟ فهل من خلال تضييق الخناق عليه، ومحاولة إحداث صدعٍ في بنيته، وخلخلة قاعدته الشعبية، ودفع السوريين الذين يعيشون تحت سلطته إلى الثورة عليه وإسقاطه؟ وكيف سيكون التأثير المحتمل للقانون على حياة الناس العاديين؟ وهل لأن القانون يستثني من العقوبات المواد الغذائية والدوائية والمساعدات الإنسانية فهو لهذا لن يطالهم؟
هناك تناقض كامن بين النظر إلى القانون باعتباره وسيلة لدفع الناس إلى الثورة على النظام من جهة، والقول إنه لا يمس قوت يومهم واحتياجاتهم الأساسية من جهة أخرى، كذلك فإن النظرة تنطلق أيضاً من تفكير رغبوي بشأن قدرة القانون على تحقيق أغراضه، وتظل أيضاً أسيرة تصوّرات سياسية ساذجة، تتمحور حول أن واشنطن مهتمة حقاً بمصير سورية، ناهيكم عن الاهتمام بمصالح السوريين، أو تحقيق العدالة لهم، أو التوصل إلى حل سياسي عادل، ينهي مأساتهم المستمرة منذ سنوات بل منذ عقود، مع أنه يتميز عن العقوبات المفروضة على آل أسد منذ ثلاثة عقود هي شمولها للأطراف الثالثة، أي يشمل أيّة دولة أو مؤسسة غير سورية تتعامل مع أيّة مؤسسة سورية، حتّى التي لم تسمّى مسبقاً. وهذه سابقة، إذ أنّ أي شركة صينيّة أو هندية مثلاً ستتخوّف من أن يُدرج اسم من تتعامل معه في قائمة معاقبين قادمة وستوقف احترازياً هذا التعامل، وقد تكون أوقفت فعلاً حتى قبل أن تصدر الأسماء.
قانون قيصر هو قانون سياسي بالدرجة الأولى بميكانيزمات اقتصادية للضغط على كل من سيطاله، وبذلك لن يسرع بنهاية المأساة في سورية بل سيدفع لإشغال الجميع بالجميع وقد يكون مدخلاً للتقسيم المتوافق مع الاحتلالات التي استدعتها طبيعة الصراع وعقابيل الثورة.
فالجميع سيتوّقف عن التعامل حتّى مع القطاع الخاص السوري، ما يمكن أن يؤديّ إلى كارثة معيشيّة للمواطنين، وبما أنّ العقوبات الأحادية الجانب هي شكل جديد من أشكال الحروب التي تشنها دولة قوية على دولة أخرى أضعف منها، فالمستهدف الأساسي هو دول الجوار أي لبنان والاردن والعراق وهي الأضعف من روسيا والصين، خاصّة لبنان الغارق في أزمته، إمّا أن يقطع علاقاته مع سورية أو يطال قيصر كل مؤسساته العامّة والخاصّة.
وليس صحيحاً أنّ العقوبات لا تطال الغذاء والدواء في سورية، فلقد انهار الأمن الغذائي حتى قبل قيصر لأنّه لا تعمل محطات ضخ المياه دون نفط، ودون الضخ لا يمكن ريّ المحاصيل، ودون الريّ لا محاصيل ولا مردود زراعي.. فسوريا اليوم عادت لتعتمد على المطر، ويكفي سنة جفاف حتّى يموت الناس جوعاً! والصناعة الدوائية التي كانت تلبي 80% من احتياجات السوريين لم تقم إلاّ عبر تصدير جزء من انتاجها إلى دول أخرى، الذي توقف وأصبح ميزان الدواء في سوريا سلبيّاً منذ 2011.. وعندما تضيف الولايات المتحدة قيصر على العقوبات السابقة هذا يعني أنّها تريد أن تسرع من حصول الكارثة المعيشية، في حين أضحى أغلب سكان سورية تحت خطّ الفقر.. وما سينتج عن ذلك هو الفوضى واللا استقرار في سورية وكذلك في لبنان.
الولايات المتحدة ستدفع بالمزيد من اللا استقرار في سورية، عبر العقوبات الاقتصادية الخانقة وحجب إعادة البناء، لإجبار روسيا على إعادة النظر في سورية غير المستقرّة التي تورّط روسيا أكثر، عبر استراتيجية واشنطن بالدفع بموسكو، ولو مُكرهةً، الى الانفصال عن إيران وحزباله في سورية، وإلاّ، فإنها بدورها مرشّحة للمحاسبة وللعقوبات ووضع شركاتها على القائمة السوداء بموجب قانون قيصر.
فتجربة روسيا في فنزويلا مثلاً مريرة لأن العقوبات الأميركية أجبرت كبار شركاتها النفطية على المغادرة، وبذلك، خسرت روسيا موقع قدم بالغ الأهمية لها في أميركا اللاتينية، ولم تتمكّن من مساعدة حليفتها وكذلك الصين، وهي لا تريد مصير مغادرتها سورية كما اضطرت لمغادرة فنزويلا. وإيران بدورها ستتوقّف وسنرى أنه ليس لديها ما يكفي من الناقلات للاستمرار بدعم فنزويلا مع تطبيق العقوبات الأميركية على الناقلات التي تنقل النفط والغاز والديزل من إيران.
إن وضع بشار وأسماء أسد على قائمة عقوبات قيصر يثبت جدّية الولايات المتحدة بالضغط على نظام الوحشية والنهب، وعلى جميع من يتعامل معهم أن يفهم بأن أياً كان له علاقة بالفظائع والجرائم التي ارتكبها، فإنه لن يشعر بالأمان. وإن المزيد لا بد آتٍ، خاصة مع الانكار المُزمن لدى الطغمة المجرمة ورفض مطالب الشعب، والمزيد من الأسماء المرشّحة للعقوبات والقائمة السوداء ليس بالضرورة من سورية فقط، وإنما من لبنان ومن وغيره أيضاً.
وككل الأنظمة الاستبدادية، خصوصاً في سنوات الحروب، فقد أثبت النظام المجرم في سورية قدرة استثنائية على الاستفادة من أزمات المجتمع والناس وآلامهم، ابتداءً من استغلال قضايا المعتقلين بتقاضي العمولات والرشى، إلى أعمال النهب والتعفيش، وحتى بيع أنقاض البيوت بعد تهديمها. فقانون قيصر لن يكون إلا أداة إضافية في عدة الشغل لهذا النظام المجرم كي يستمر في هذه الممارسات.
والعقوبات التي يفرضها قيصر، مهما حاولنا التلاعب بالألفاظ، لتخفيف آثارها، ستؤدي إلى معاقبة عامة للناس تتراكب حالياً مع جائحة كورنا، وجزء كبير منهم ليس لهم ذنب إلا أنهم وجدوا أنفسهم مازالوا على قيد الحياة في مناطق سيطرة نظام الطغمة الفئوية المجرمة.
كما أن هدف قيصر أميركياً تحقيق تغيير في سورية، تبدو غير واقعية تماماً، فالإدارة الأميركية، وعلى لسان المسؤول الأول عن الموضوع السوري فيها، جيمس جيفري، لا تسعى إلى تغيير النظام، بل دفعه إلى التخلي عن إيران وإخراجها من سورية، وفي أحسن الأحوال إبداء مرونة كافية تسمح بحل سياسي، قد لا يتفق بالضرورة مع رؤية وأهداف الشعب السوري. وفوق ذلك، من الصعب تصوّر أن تستسلم روسيا وإيران لقيصر، بعد أن أفشلا محاولات إسقاط النظام عسكرياً، حتى لو خرج الناس عليه.
ومع استمرار الحراك والتظاهر في الكثير من النقاط داخل سورية وبمجمل المناطق من الجنوب للشمال ومن الشرق للغرب فلا بد من أحد خيارين: البدء بتحقيق أهداف الثورة من خلال شكل مجدي من الوحدة الوطنية التي مُنع عنها شعبنا أو اللا استقرار والمزيد من الفوضى مهما كانت رغبة ونوايا أميركا وإسرائيل دون رفع غطائهم الحقيقي عن نظام القتل والجريمة الفئوي الأسدي.
نقول ذلك ليس تحفظاً أو رفضاً لمعاقبة القتلة والمجرمين، ولكن نسوق ونقدم المحاذير من الاستمرار في التأتأة السياسية وعدم الجدية بسرعة تخفيف معاناة شعبنا السوري، ذلك من خلاِل احتضان حالة وطنية جادة وجديدة لصوغ مستقبل سورية قولاً وفعلاً والانتقال السياسي بدون السفاحين والمجرمين بالتلازم مع قانون قيصر إن كان المشرع الأميركي جاداً فيما حاول إيصاله لمسامعنا حول تطبيق القرار الأممي 2254.
المصدر: اشراق