عليا ابراهيم
هشام كان يعرف جيداً ما الذي ينتظره. التهديدات كانت تأتيه مباشرة والجهة التي غدرته ليلاً بكاتم صوت ليست مجهولة. ساعات مرت قبل أن أستوعب البعد الشخصي لخبر اغتيال الباحث هشام الهاشمي في بغداد. الخبر بصيغته الرسمية كان له وقع الفاجعة، لكنها كانت فاجعة عامة، بعيدة وباردة.
الحزن الحقيقي بدأ عند سقوط محاولتي كلها بالابتعاد من الجانب الشخصي. فبكل أنانية حاولت على مدى ساعات أن أفتعل مسافة من الخبر، أن أمنع صوراً راحت تتزاحم في رأسي، أن أطرد صوت هشام وهو يعود إلى ذاكرتي، ضاحكاً وممازحاً ومحدثاً وشغوفاً…
أهرب إلى عالمي الآمن، أجلس أمام شاشتي في محاولة للاستمرار، على حائطي لوحة للفنان العراقي ستار درويش. أعود إلى بغداد، في ذلك اليوم وقعت في حبها بعدما رأيتها بعيون الذين عشقوها… تسقط محاولاتي كلها.
صديقي هشام، قُتِل غدراً. صديقي صاحب الصوت العالي والشجاع، أسكته رشاش وكاتم صوت، حمله كائن جبان من دون اسم أو وجه.
كم كانت الأمور أسهل لو أننا لم نلتقِ. أكره نفسي وأحتقرها إذا فكرت أي شخص أصبحت وما الذي فعلته محاولاتي لحماية نفسي… حماية نفسي ممن؟ ومن ماذا؟
ما الذي يمكن أن تفعله صورة أو رسالة صوتية. على هاتفي أعود إلى شهر أيار/ مايو من العام الماضي. هل مضى حقاً هذا الوقت كله؟ “تفضلي مديرة، تؤمرين أمر، ولو”، صوت هشام برنته الضاحكة كما أذكره. كم تناكفنا في كل مرة قال لي فيها “مديرة”.
عليا ابراهيم وهشام الهاشمي خلال استراحة في بغداد
كنا في زيارة إلى بغداد لإجراء مقابلات مع قيادات “داعش” الموجودة في السجن المركزي ولزيارة مخيمات اللجوء، وبقي هشام معنا على مدى أيام، يمدنا بمعرفة قل نظيرها حول الموضوع… الواقع العراقي يومها كان مثل اليوم معقداً وقاتماً ولكن هشام كان مؤمناً بأن للبلد أبناء سيعرفون كيف يحررونه.
لم يكن تبسيطياً ولم يكن مهادناً لأي نظريات سياسية، كان فقط مؤمناً بأن المستقبل لا بد أن يكون أفضل للعراق والعراقيين مهما طال الزمن. كان ذلك قبل أشهر من اندلاع الثورة الشعبية في العراق، ويوم بدأت كان هو من أول المدافعين عنها.
لم يكثر هشام الكلام ولكنه عرف كيف يسحرنا. ضيق الوقت فرض علينا حركة سريعة، تركنا له مهمة قيادتها، فكان لنا أن نتذوق بغداد بكل طبقاتها.
بين مقابلة وأخرى، لا بد من أكلة مسقوف على ضفاف دجلة، الحديث عن واقع العراق لا يمكن فهمه من دون العودة إلى التاريخ… قد يكون ذلك مثل شراب التوت عند الحاج “زبالة” من دون الانتباه الى عراقة شارع المتنبي. كم أصر على أن نجرب شراب التوت هناك، وكم ضحكنا. كم صمتنا أمام هول ما حصل في بغداد على مدى عقود ونحن ننظر إليها من علياء فندق فلسطين، وضخامة نصب قوس النصر في المنطقة الخضراء وجمالية أعمال جواد سليم ومحمد علي حكمت في أرجاء المدينة المرهقة. …
كم أحب هشام حبنا مدينته، وكم ساعدنا على التحايل على الوقت وسرقة بضع ساعات أمضيناها برفقة فنانين عراقيين… كم احترت أي واحدة اللوحات التي أحببتها أعود بها إلى بيروت، انتهى قرارنا يومها بالبدء بلوحة ستار درويش، بعدما وعدني أن يأتيني بأي لوحة أخرى متى أريد…
التقينا مجدداً في بيروت، وفي آخر اتصال بيننا لم أطلب منه لوحة إنما مساعدة صديق شاب ومخرج صاعد يحتاج إلى تسهيلات من أجل التصوير في بغداد والموصل.
“تفضلي مديرة، تؤمرين، ولو”.
يأتيني صوته من مكان آخر، ويأخذني إلى أماكن أخرى تغذيها الصور التي تؤكد أن ما عشناه حقيقة حتى وإن كانت أقرب إلى الاحلام.
ما هو هذا السحر الذي يجعل بضعة أيام كافية لبناء صداقة لم تعش طويلاً، ولكن فقدانها يترك هذا الحزن كله وهذا الخوف كله.
هذا ما تفعله رسالة صوتية وبضع صور… تعيدني إلى صداقات مشابهة راكمتها على مدى سنوات، كانت كلها مؤلمة، لكنها تحمل اليوم القليل المتبقي من الأمل.
“ما هذه الخيارات التي اتخذناها؟”، سألني حازم، رفيق الرحلة إلى بغداد… لم أرد أن أسمع بقية السؤال… أي مصير توقعنا، في عالم نريده جميلاً وآمناً يحكمه وحوش يواجهون كلمة برصاصة.
هشام كان يعرف جيداً ما الذي ينتظره. التهديدات كانت تأتيه مباشرة والجهة التي غدرته ليلاً بكاتم صوت ليست مجهولة. سواء كانت “كتائب حزب الله” العراقي أو أي فصيل آخر فالجهة واحدة… هي واحدة في العراق وفي لبنان واليمن وسوريا وحتى إيران وحتى اليوم لم تشبع دماراً ولا دماء…
ما الخيارات التي اتخذناها؟ وأي خيارات أخرى كانت لدينا؟ هل كان ممكناً ألا “نتورط” مع من أتوا إلينا في ذلك الربيع من عام 2011، ونذهب معهم بثورتهم العادلة وحلمهم المجنون إلى النهاية؟ هل كان ممكناً أن نغلق قلوبنا أمام شجاعتهم وتضحياتهم… هل كان علينا أن نخاف وأن نحذرهم من جدية شعار “الأسد أو نحرق البلد”؟ هل كانت علينا حماية أنفسنا من خسارات موجعة كنا بغنى عنها؟
ولكن أي بشر كنا لو فعلنا؟ أي حلم كان بقي لنا لو قبلنا؟
ما الخيارات التي اتخذناها؟
ليست خيارات بل خيار واحد… خيار التمسك بحد أدنى من القيم الإنسانية مهما كان الثمن والتمسك بالحلم مهما كان مستحيلاً.
أينما كنت يا هشام كن مبتسماً، إنها مسألة وقت فقط، وبعض الأثمان سيُدفع ولكن هذا كله غير مهم، حلمك بخير… هكذا يقول لنا التاريخ، وما عراقك بكل ثرائه سوى شاهد على ذلك.
المصدر: درج