سمير رمان
يتحرى مؤرخون، وعلماء اجتماع، أميركيون، ظاهرة الاضطرابات التي شهدتها الولايات المتحدة الأميركية، أخيرًا. ويعتقد كثير منهم أن الصدامات مع الشرطة، وسرقة المحالّ والمخازن، ظاهرة كلاسيكية من مظاهر الصراع السياسي المحليّ.
في مقابلة مع مجلة التايمز، يذكِّر سيمون بالتو، المؤرخ في جامعة أيوا، أنّ حالة “حزب الشاي” في بوسطن، التي كانت، عمليًا، نقطة فارقة في مسار الاستقلال الأميركي “جريمة عادية ضدّ الملكية الخاصّة” رافقتها عناصر استفزازية. ففي 16 من كانون الثاني/ يناير عام 1773م، تنكّر بضع عشراتٍ من “النشطاء” الأميركيين بزيّ السكان الأصليين للقارة، ولوَّنوا وجوههم، وتمكّنوا من الاستيلاء على سفينة محملة بالشاي في ميناء مدينة بوسطن، ورموا صناديق الشاي في مياه البحر. لم يخدع تنكّر المهاجمين أحدًا، فالجنود المتواجدون على متن السفينة أدركوا أنّ هؤلاء ليسوا سوى مستعمرين بيض، ولم يطلقوا النار عليهم.
اليوم، يلاحظ بوضوحٍ أنّ تقنية هذا الاستفزاز تشبه إلى حدٍّ بعيد ممارسات “الكتلة السوداء” في منظمة أنتيفا (Antifa)، التي يغطي عناصرها وجوههم، ويقومون بإثارة الجمهور المحتجّ في الشوارع.
تطرح حجج المؤرخين موضوع المواجهات العرقية التي شهدتها الولايات المتحدة في ستينيات القرن الماضي، عندما اجتاحت جميع الولايات الأميركية تقريبًا موجة عارمة من الاحتجاجات
والمسيرات التي ترافقت باشتباكاتٍ مع عناصر الشرطة في سائر أنحاء البلاد. يخيّل للمراقب أنّ حجم ذاك الصراع العرقي، آنذاك، هو أعمق مما هو عليه اليوم. فقد شملت أعمال العنف مناطق ومدنًا بأكملها، وقام المحتجون بإشعال النار في البيوت والسيارات والأبنية الحكومية ومراكز الشرطة، ونهبوا المتاجر. وكانت الحصيلة عشرات القتلى، وعشرات آلاف الجرحى. وفي المسيرة التي نظمها النشطاء الملونين في واشنطن وحدها، شارك حوالي 300 ألف شخص، مما اضطر السلطات إلى الزجّ بوحدات الجيش في المدن، ولم يتم إخماد التمرد في ديترويت عام 1967 إلا بعد الاستعانة بالدبابات. وصل النضال ضدّ التمييز العنصري ذروته عام 1968، بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ مباشرة، إذ عمّ الاضطراب جميع أنحاء البلاد، ووصل الأمر إلى نشر الرشاشات في محيط البيت الأبيض، بهدف التصدي للمحتجين. في تلك الاحتجاجات، لعبت منظمة الفهود السود دورًا نشطًا في أعمال الشغب.
وكما هو الحال اليوم، قام مشاهير رجال الأعمال، ومثقفون ليبراليون، بإثارة وتمويل نزاعٍ عنصريّ. وفي هذا الصدد، يصف الكاتب الكلاسيكي الأميركي، توم بولف، في روايته “نيران الطموحات – Bonfires of Ambition” بشكلٍ مرحٍ، كيف حلّ رجل ليبرالي أسود ضيفًا على حفل عشاءٍ أقامته مليونيرةٌ نيويوركية عام 1968، لإلقاء خطابٍ للحصول على دعمٍ ماليّ من كبار الشخصيات المحليّة. إلا أنّ ممثلًا عن السكان الأميركيين الأصليين تسبب في إفساد الحفل نتيجة سكره الشديد.
وقف قادةٌ من الحزب الديمقراطي علنًا وراء أحداث عام 1968، وأشادت الصحافة، التي كانت خاضعةً لهم، بالمتظاهرين. في تلك الأثناء، كرّس جون لينون، وجانيس غوبلين، عروضهما للإشادة بحركة “الفهود السود”، التي كان من قادتها دون كوكس، وهو من أفضل أصدقاء مشاهير نيويورك، فقد كان دون كوكس من رواد أمسيات بارك أفينيو الدائمين. بالرغم من كلّ ذلك الصخب الذي رافق الحملة الانتخابية، تعرّض الحزب الديمقراطي للهزيمة، لأنّ الخوف من المذابح كان قد سيطر على غالبية الجماهير الأميركية، التي صوتت للمرشح الجمهوري، ريتشارد نيكسون. تعامل نيكسون مع حركة “الفهود السود” بسرعةٍ وحزم، وتمكّن من إخماد أعمال الشغب الجماعية.
وفي ربيع 1992 ، كرّر التاريخ نفسه مرةً أخرى، عندما قامت شرطة لوس أنجلوس، في ذروة الانتخابات الرئاسية، بضرب المواطن الأسود، رودني كينغ، ضربًا مبرحًا بالهراوات. وجاء الردّ سريعًا، إذ انتفضت المدينة بكاملها، وأحرقت الجموع الغاضبة آلاف المباني، ونهبت المتاجر، وألقيت الحجارة وقنابل المولوتوف الحارقة على رجال الشرطة، لتمتد الاحتجاجات إلى مدينة سان فرانسيسكو، حيث اندفع مئات الآلاف من السود للمشاركة في الاحتجاجات التي نظّمت في كافة أرجاء البلاد. في النهاية، دُفع بالحرس الوطني إلى لوس أنجلوس لوقف الاحتجاجات، فاعتبرت الصحافة الديمقراطية عملية إرساء النظام بأنّها قسوةً لا توصف. في خضمّ هذا الصخب، حصل المرشح الديمقراطي على أصوات الناخبين السود، لينتخب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية.
وبهذا، ليس من المستغرب أن تذكرنا الشعارات التي يرفعها المحتجون اليوم، من قبيل:
“Black Lives Мatter” بالصراعات العرقية التي شهدتها الولايات المتحدة في السنوات الماضية. مع ذلك، هنالك اختلافات واضحة بين أجندة احتجاجات الستينيات، وأجندة الاحتجاجات الحالية. وقتها، كان المهاتما غاندي النموذج الذي اعتمده زعيم متمردي الستينيات، مارتن لوثر كينغ، الذي دعا في جميع خطبه إلى مقاومةٍ لاعنفية، مذكّرًا الأميركيين بالحلم الأميركي الحقيقي، المساواة بين جميع الأمم والأجناس، وبقدسية الحرية الفردية. كانت خطابات لوثر كينغ نسخةً من خطابات الآباء المؤسسين، وكان جوهر كلامه يحثّ الأميركيين على العودة إلى قيمهم الحقيقية التي تقول بالتخلي عن العنصرية والفصل العنصري.
لكن بعض المحللين يطيب لهم مقارنة ما يجري في الولايات المتحدة اليوم مع ما شهده الاتحاد السوفييتي في الستينيات، حيث كان الناس يحنّون إلى سنوات الثورة الأولى، ويحلمون بالعودة إلى “القيم اللينينية”. فالأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة الأميركية تذكّر أكثر بالأحداث التي جرت في روسيا في نهاية البريسترويكا، عندما جرى تدمير إرث العصر السوفييتي تدميرًا شبه كامل.
أما ما يلفت النظر فهو الفرق بين الشعارات الإنسانية في الستينيات، وبين خطابات اليوم. اليوم، يحاول السود تدمير كلّ ما يتعلق بالحضارة البيضاء في أميركا، بدءًا بكولومبوس، وانتهاءٍ بروزفلت.
اليوم، أصبحت السيطرة على الرأي العام شموليةً بالمطلق، وصار في الإمكان طرد الناس من أعمالهم، وإظهارهم أشرارًا في أعين الجمهور، لمجرد إبدائهم اعتراضًا بريئًا على غرار القول “حياة أيّ إنسانٍ مهمّة”. أصبح من الجليّ الآن أنّ هذه الحملة التي اجتاحت الولايات المتحدة الأميركية مكرّسة بالكامل تقريبًا لتحقيق هدف وحيد: منع إعادة انتخاب ترامب، في وقتٍ لا يسمح لأنصاره عمليًا بالتحدث علنًا، كما يتمّ إخافة غالبية الناخبين عبر إلصاق تهمة مسبقة بهم بأنّهم “عنصريون بيض”، بالإضافة إلى حرمانهم بشكلٍ عام من الوصول إلى وسائل الإعلام (التي يسيطر الديمقراطيون عليها بشكلٍ كاملٍ تقريبًا). في الستينيات والتسعينيات من القرن الماضي، لم تكن هنالك مثل هذه الرقابة على الفكر في الولايات المتحدة. كلّ هذا يؤدي إلى انقسامٍ عنصريٍّ غير مسبوق في البلاد. ويزداد الأمر تعقيدًا عند استعادة فكرة أنّ النضال في الولايات المتحدة كان قبل نصف قرنٍ نضالًا عادلًا ضدّ إرث نظام العبودية والفصل العنصري اليومي البغيض، وحاز على تأييد كافة المواطنين العقلاء تقريبًا. حينها، رأت البلاد بأسرها كم هي محقّة مطالب السكان الملونين، أمّا اليوم، فلا يمكن عمليًا تمييز موضوعٍ للنضال، فالأميركيون من أصولٍ أفريقية، مع ما يتمتعون من مزايا اجتماعية، وحصصٍ في وظائف
العمل، وفي الجامعات، لم تتبق لديهم أهدافٌ حقيقية للنضال، لتنحصر المطالب بمطلب حلّ جهاز الشرطة، واستبدالها بما يسمّى “دوريات الدفاع عن النفس”، وهو المطلب المنسوخ حرفيًا من مطالب “حركة الفهود السود”. أمرٌ آخر يستحق التنويه: لم يسبق أن خاض الديمقراطيون حملة انتخابية واحدة على خلفية مثل هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية حاليًا. وحتى لو كانت إجراءات الحجر الصحي سببًا في موجة الهياج الاجتماعي الحالي، فإنّ السبب الحقيقي ربما يكون في خوف الناس العميق على أعمالهم وصحتهم وحياتهم نفسها. وفي حين يوجد في البلاد اليوم أربعون مليون عاطلٍ عن العمل، بحوزتهم أكثر من 400 مليون قطعة سلاح متنوعة، فإنّ الولايات المتحدة لم تشهد تجارب نشوب صراعات عنصرية في مثل هذه الأجواء الملتهبة، لذا فإنّ نتائج اضطرابات اليوم تبدو عصيّة على التوقع، وهذا ما جعل التشاؤم يسود بين المحللين الأميركيين. يظهر هذا التشاؤم بشكلٍ واضح في مقال الصحفية إليزابيث درو التي كتبت “… إنّ التجربة الأميركية التي مرّ على بدايتها 244 عامًا، تمرّ بخطرٍ شديد”.
أخيرًا، إذا سارت موجة الاحتجاجات الحالية على ممارسات الشرطة على النحو الذي حدث أعوام 1968، و1992، فقد يكون علينا انتظار الخريف المقبل، الذي يلي الانتخابات الرئاسية. عندها سنشهد تراجعًا في المواجهات، ولكن إذا طرأت مستجدات جديدة، فإنّ أميركا قد تواجه فوضى لا يمكن السيطرة عليها.
المصدر: ضفة ثالثة